لا يخفى على القارئ أن نص السيد عزيز رباح يتميز بقدرة عالية على التشخيص وبلاغة الأسلوب، إذ يسلط الضوء على مظاهر هدر المال العام وسوء توجيه الموارد في الإدارة المغربية، ويقدّم نداءً للترشيد والحكامة. غير أن النص يعاني من أزمة مصداقية هيكلية، لأنه صادر عن مسؤول سابق كان جزءًا من منظومة القرار التي ينتقدها اليوم. هذا التناقض بين القول والفعل يمثل النقطة المركزية في نقدنا، ويجب أن يُفهم في سياق أوسع يشمل العدالة المجالية وضرورة توجيه الموارد نحو المناطق الأكثر حاجة.
1. التناقض بين القول والفعل: أزمة المصداقية
كان السيد رباح يمتلك خلال توليه المسؤولية القدرة على تفعيل التشريعات والإجراءات التي يدعو إليها اليوم، ما يجعل نصه يبدو في جزء منه دعوة متأخرة أو تبريرًا للأخطاء السابقة.
غياب الاعتراف بالدور السابق أو المحاسبة الذاتية يحوّل النص من خطاب إصلاحي محتمل إلى خطاب سياسي يهدف إلى تحسين صورة شخصية، بدل تقديم تجربة إصلاحية صادقة.
النقد هنا يكتسب قوة إضافية عندما يُقاس بواقع التدخلات السابقة في المناطق الأكثر هشاشة، حيث كانت الفوارق المجالية بحاجة إلى سياسات أكثر عدالة واستهدافًا.
2. تبسيط المشكلة وإغفال الجذور الهيكلية
التركيز على “التبذير” فقط كمسبب رئيسي للتفاوتات الاجتماعية والمجالية يُغفل أن التبذير هو عرض لمرض أعمق: غياب الشفافية، المحسوبية، الفساد الهيكلي، والتمويل غير المتكافئ للمناطق.
أمثلة ملموسة: الرخام والإضاءة الزائدة والصفقات المكلفة ليست مجرد إسراف، بل تعكس ضعف المنافسة والرقابة، وتؤثر بشكل مباشر على قدرة الدولة على توجيه الموارد إلى مناطق محرومة تحتاج البنى الأساسية والخدمات.
الحلول المقترحة مثل “تفعيل التشريعات” أو “إعطاء الأفضلية للمنتوج المغربي” تظل عامة ما لم تتضمن آليات عملية للتنفيذ، خصوصًا في المناطق التي تعاني من تفاوتات مجالية واضحة.
3. السياق السياسي والتحصين الأخلاقي للخطاب
توقيت النص بعد الهزيمة الانتخابية لحزبه يجعل الخطاب يبدو في الأوساط السياسية محاولة لاستعادة الشرعية أكثر من كونه نداء إصلاحي صادق.
استخدام شعارات وطنية مثل “الوطنية الصادقة” لتبرير الترشيد والتحصين الأخلاقي يقلل من مصداقية النص.
ربط النقد بالعدالة المجالية يضيف بعدًا موضوعيًا: فالشعب لم يعد يقيّم الأداء من خلال الخطابات الوطنية، بل من خلال توزيع الموارد بشكل عادل بين المدن الكبرى والأحياء والفئات المهمشة.
4. أفق التحسين والإصلاح: من النية إلى الآلية والعدالة
لتجاوز ضعف المصداقية وتحقيق أثر حقيقي، يمكن تصور إطار إصلاحي عملي يدمج الشفافية والمحاسبة والعدالة المجالية:
1. المحاسبة والشفافية: نشر بيانات جميع الصفقات العمومية، مقارنة الأسعار مع مؤشرات السوق، وضمان مشاركة المجتمع المدني في الرقابة.
2. الاعتراف بالمسؤولية الشخصية: إصلاح مستدام يبدأ بالاعتراف بما فات، خاصة في توزيع الموارد على المناطق المهمشة.
3. التخطيط حسب الأولويات والعدالة المجالية: توجيه نسبة محددة من الميزانيات للقطاعات الأساسية في المناطق المحرومة (الصحة، التعليم، البنى التحتية)، وتقليل الإنفاق الترفيهي أو التزييني في المناطق ذات الأولوية الأقل.
4. دعم المقاولات المحلية والصناعة التقليدية: تعزيز الفاعل الوطني مع استهداف المناطق ذات الفرص الاقتصادية المحدودة، لتقليص التفاوتات المجالية وخلق فرص شغل مستدامة.
5. استغلال الفراغات العامة: إقامة مشاريع مدرة للدخل في الساحات والأرصفة، مع تخصيصها للمناطق الأكثر حرمانًا، لتعظيم العائد على الاستثمار ودعم التنمية المحلية.
خاتمة
نص السيد رباح صرخة مهمة ضد تبذير المال العام، لكنه يفتقر إلى المصداقية العملية بسبب دوره السابق في إدارة هذه الموارد. الإصلاح الحقيقي لا يكتفي بالحديث عن الترشيد أو الوطنية، بل يتطلب الاعتراف بالمسؤولية الشخصية، آليات ملموسة للتنفيذ، ومراعاة العدالة المجالية في توزيع الموارد، لضمان أن كل درهم من المال العام يخدم التنمية العادلة ويحقق أثرًا حقيقيًا في حياة المواطن.