Wednesday 1 October 2025
كتاب الرأي

عبد الحميد جمور: جيل Z-212 بين شرعية المطالب وخطورة الاختراق

عبد الحميد جمور: جيل Z-212 بين شرعية المطالب وخطورة الاختراق عبد الحميد جمور

كغيري من المغاربة، تابعت ما يجري من احتجاجات مرة بعين المواطن البسيط الذي يختبر يوميا تحديات الحياة، ويستشعر نبض الشارع بما يحمله من قلق، آمال، وتطلعات، ومرات عديدة أخرى تابعتها بعين الباحث، الذي راكم عبر سنوات من العمل الأكاديمي والمعرفي أدوات متواضعة للتحليل، صقلتها تجربة طويلة انتهت بنيل شهادة دكتوراه لم تكن مجرد ورق أو لقب، وإنما ثمرة مسار بحثي عميق في قضايا المجتمع والتحولات التي يعرفها، هذا الجمع بين النظرتين يجعل موقفي مزدوجا: عين مواطن ينتمي إلى هذا الوطن بكل تفاصيله، وعقل باحث يحاول أن يقرأ الأحداث بتأن، بعيدا عن الانفعال أو الانحياز المسبق.

ومن هذا المنطلق، أكتب هذه السطور لا بدافع الانفعال العابر أو الرغبة في تسجيل موقف شخصي فحسب، بل رغبة في المساهمة في نقاش وطني مفتوح يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى قدر من الهدوء، العمق، والتبصر. ذلك أن ما نشهده اليوم ليس مجرد وقفات احتجاجية شبابية عابرة، بل هو ظاهرة اجتماعية وسياسية تستدعي تفكيكا عقلانيا لآلياتها، دوافعها، ومن يقف وراءها. فالمسألة ليست في الشعارات المرفوعة أو الحماسة الظاهرية التي تسوق عبر المنصات الرقمية، بقدر ما هي في البنية الخفية التي تجعل من هذه الحركات حالة منظمة تتجاوز العفوية التي يراد إيهامنا بها.

موجة احتجاجية مفاجئة: مطالب مشروعة لكن سياقات مريبة

منذ أيام قليلة فقط، بدأت موجة من الاحتجاجات الشبابية تتسع في عدد من المدن المغربية، من الدار البيضاء والرباط إلى أكادير وتمارة ووجدة. رفعت هذه الوقفات شعارات تتعلق بتحسين الخدمات الصحية، إصلاح التعليم، تعزيز الكرامة الاجتماعية، والارتقاء بالحياة اليومية، وهذه كلها قضايا لا يختلف عليها اثنان في مشروعيتها، فهي مطالب تلامس جوهر الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين.

لكن ما يثير الحيرة ليس مضمون المطالب في حد ذاته، وإنما الطريقة التي تم بها التعبئة، والسرعة التي انتشرت بها، والتنسيق الافتراضي غير المألوف الذي قاد إلى تواجد أعداد متفرقة ومتزامنة في فضاءات متعددة، وكما لاحظ تقرير لوكالة رويترز (30 شتنبر 2025)، فإن الحركة التي تطلق على نفسها اسم “جيل زد-212” اعتمدت بشكل شبه كامل على الفضاء الرقمي، عبر منصات مثل تيك توك وإنستغرام وديسكورد، وهو ما يمنحها سرعة في الانتشار، لكنه في الوقت ذاته يضعف من مصداقية تمثيلها للواقع الاجتماعي الفعلي.

كيف ظهر اسم "جيل Z-212"؟

أول سؤال منطقي يفرض نفسه: كيف يمكن لمجموعات شبابية غير منظمة، تنتمي إلى مجالات اجتماعية وجغرافية متباينة، أن تتفق في ظرف وجيز على هوية موحدة تحت اسم "جيل Z-212"؟

التسمية ليست بريئة، فهي تحمل دلالات رمزية قوية، مرتبطة بجيل رقمي عالمي الطابع، وفي الآن نفسه ممهورة برقم يشير إلى الهوية الوطنية المغربية (212)،هنا نستحضر قول أنطونيو غرامشي: "الهيمنة تبدأ حين يتم التحكم في الرموز والمعاني، لأنها وحدها القادرة على خلق شعور بالانتماء المشترك حتى وسط تباينات الواقع". ما يعني أن الأمر لا يمكن اعتباره مجرد مصادفة شبابية، بل هو عملية هندسة رمزية متعمدة.

المفارقة أن هذه التسمية تحولت بسرعة إلى علامة احتجاجية جامعة، رغم غياب أي قيادة معلنة أو شخصية رمزية خلفها، مما يثير فرضية وجود أيد خارجية أو شبكات ضغط تعمل على تكريسها.

من الخطاب البريء إلى المواجهة

تُظهر دينامية الاحتجاج في المغرب خلال الأسابيع الأخيرة أن البداية تبدو دائمًا بريئة: دعوات عبر المنصات الرقمية ترفع شعارات عامة ومقبولة، مثل تحسين التعليم، الصحة، أو توفير الكرامة الاجتماعية. هذه العناوين الواسعة تستقطب الشباب سريعًا، لأنها لا تتضمن طابعًا سياسياً صدامياً مباشرًا، بل تقدم نفسها في شكل "خطاب براءة". غير أن هذا الغلاف الأخلاقي لا يلبث أن يتلاشى بمجرد انطلاق الوقفات، إذ يتحول المشهد تدريجيًا إلى مواجهات مع السلطات، تتخللها أحيانًا أعمال عنف ورشق بالحجارة.

وقد وثقت وكالة رويترز (1 أكتوبر 2025) اعتقال المئات بعد انزلاق بعض الوقفات من سلمية إلى فوضى، وهو ما يفتح الباب للتساؤل: هل نحن أمام حركة عفوية أم أمام عملية دفع ممنهج نحو التصعيد؟ هنا يظل كلام ريمون آرون في كتابه أفيون المثقفين شديد الراهنية: "الخطاب الأخلاقي حين يُستعمل خارج أفق التنظيم العقلاني، لا بد أن يتحول إلى نزعة عنيفة" (Aron, 1955).

البعد الرقمي: حسابات وهمية وأسماء جديدة

يكفي القيام ببحث بسيط على المنصات الرقمية ليتبين أن المشهد ليس بريئا كما يبدو، العشرات من الحسابات التي تدعو إلى المشاركة في الوقفات لا تملك تاريخا سابقا من النشاط، وقد أنشئت قبل أسابيع فقط، بأسماء وهمية وصور مزيفة لشباب مجهولي الهوية.

حتى انه تبين أن بعض هذه الحسابات تدار من خارج المغرب، وتستخدم تقنيات تضخيم عبر "البوتات"، ما يعطي الانطباع بوجود زخم افتراضي هائل لا يعكس بالضرورة حجم الواقع، هذا الأسلوب هو بالضبط ما حذر منه هنري كسنجر حين قال: "إن أخطر ما في السياسة هو اللعبة التي تدار من وراء الستار، حيث لا تعرف الجماهير من يحرك الخيوط"

التوزيع الجغرافي السريع: صدفة أم تخطيط؟

من المثير أن هذه الوقفات لم تتركز في مدينة واحدة، بل ظهرت في وقت متزامن تقريبا في مدن متباعدة: من الدار البيضاء إلى طنجة، ومن مراكش إلى وجدة. هذا الانتشار الجغرافي السريع يصعب تفسيره بكونه نتاجا لتعبئة عفوية فقط. المنطق يقود إلى احتمال وجود غرفة قيادة رقمية أو إعلامية تنسق هذا الحراك بشكل مركزي.

المهدي المنجرة كان قد حذر من مثل هذا السيناريو عندما كتب: "حين يصبح التلاعب الخارجي بمطالب الداخل ممكنا، فإن الإصلاح يتحول إلى فوضى، والفوضى تقتل الأمل"، إن التحركات المتسارعة بهذا الشكل لا تترك مجالا لتفسيرها خارج فرضية وجود توجيه أو توظيف غير بريء.

حالة الدار البيضاء: حين تختلط النوايا

إحدى الحوادث التي كشفت خطورة الوضع وقعت في الدار البيضاء، حيث ألقت السلطات القبض على شاب تبين أن غايته من نشر الدعوات لم تكن مرتبطة بمطالب اجتماعية أو سياسية، بل مجرد رغبة في زيادة عدد المتابعين على حساباته الرقمية، هذه الحالة تجسد خطورة تسييل الاحتجاجات وتحويلها إلى وسيلة لتحقيق شهرة أو مكاسب شخصية.

وهذا يعيدنا إلى تحذير عبد الله العروي في أزمة المثقفين العرب: "المطالب إذا لم تجد إطارا وطنيا منظما، فإنها سرعان ما تتحول إلى أداة في يد قوى أخرى"  فالفرق بين المطلب الشرعي والمناورة السياسية يكمن في السياق، والتنظيم، والغاية النهائية.

بين شرعية المطالب ومخاطر التجيير

لا أحد يجادل في مشروعية المطالب الاجتماعية للشباب، سواء تعلق الأمر بالتعليم أو الصحة أو الشغل. غير أن الخطر يكمن في الطريقة التي تطرح بها هذه المطالب: عبر شعارات فضفاضة وغير مضبوطة، مما يسهل استغلالها، هنا نجد محمد عابد الجابري صاغ هذا الإشكال بدقة حين كتب: "المسؤولية التاريخية للشباب هي تحويل الوعي النقدي إلى بناء لا إلى هدم" (فالتظاهر من دون إطار وطني منظم لا يخدم المطالب، بل يفرغها من مضمونها، لأن الحقيقة كون المطالب تحتاج إلى مؤسسات، وأحزاب، وقنوات حوار حقيقية تترجمها إلى سياسات عمومية، لا إلى وقفات عابرة تترك الشباب عرضة للاستغلال.

نحو وعي شبابي مسؤول

إن الرهان الأكبر اليوم ليس فقط على ضبط الشارع، بل على بناء وعي شبابي مسؤول، وعي يدرك أن الإصلاح لا يأتي من الفوضى، وأن الانجرار وراء حسابات وهمية أو دعوات مجهولة المصدر قد يحول المطالب العادلة إلى فوضى مدمرة، ولعل هذه الفكرة تختصرها كلمات إيمانويل تود حين قال: "إن المجتمعات التي تسمح بجر شبابها إلى الفوضى، لا تفقد استقرارها فقط، بل تفقد مستقبلها"

جيل Z المغربي يملك طاقة هائلة، لكنه مهدد بأن يستغل كوقود لمعارك أكبر منه، والحاجة اليوم ملحة لأن يملك هذا الجيل أدوات التحليل والوعي، ليصنع مستقبله بيديه، لا بأيدي أخرى تتحكم من وراء الشاشات.

خاتمة

في نهاية هذا التحليل، لا يسعني إلا أن أعود إلى موقعين متداخلين عشتهما طوال الأيام الماضية: موقع المواطن الذي يرى وطنه مهددا بانزلاقات قد تعصف بما تحقق من استقرار، وموقع الباحث الذي يدرك من خلال أدوات التحليل أن ما يبدو عفويا قد يخفي وراءه خيوطا خفية تحاك في أماكن أخرى. إن ما نعيشه اليوم ليس مجرد احتجاجات عابرة، بل لحظة فارقة تختبر فيها قدرة المغرب على حماية شبابه من التلاعب، وقدرة الشباب أنفسهم على التمييز بين الحق المشروع في التعبير وبين الاستغلال الذي يحول المطالب العادلة إلى وقود لصراعات لا تخصهم.

لقد كتب عبد الله العروي أن "المجتمع الذي يترك مصيره لغيره، يكون قد حكم على نفسه بالانتحار البطيء"، وهذه الكلمات تتجاوز حدود الزمان لتجد صداها اليوم في وجداننا جميعا. المغرب لا يحتاج إلى شباب غاضب فقط، بل إلى شباب عاقل، ناقد، وبناء؛ شباب يحول طاقته إلى قوة اقتراح وإبداع، لا إلى فوضى تستهلك في الشارع ثم تتبخر.

إن جيل Z أمام مفترق طرق تاريخي: إما أن يترك نفسه رهينة لأجندات مجهولة الهوية، فيخسر الوطن والشباب معا، وإما أن يكتب فصله الخاص في مسيرة المغرب، فصلا يقوم على الوعي، المسؤولية، والإصرار على الإصلاح من الداخل. والأمل الكبير أن يختار هذا الجيل أن يكون بناة وطن لا وقود معارك.

فالمغرب، الذي صمد لقرون أمام العواصف، يظل أكبر من كل دعوة عابرة، وأعمق من كل حساب وهمي، وأبقى من كل موجة احتجاجية سريعة، فمستقبل هذا الوطن لن يكتب في خيوط رقمية تدار من وراء الستار، بل سيصاغ في عقول شبابه وإرادتهم الحرة.