لا أخفيكم سرا كوني ترددت كثيرا قبل الشروع في تصفيف ورص حروف هذه الرسالة. تردد تبرره قناعتنا الراسخة بتجنب الركوب على الأمواج واستغلال مآسي وخيبات المواطنين، لولا أنه يجب أن تكون لدينا الشجاعة والجرأة الكافيتين لنتحمل مسؤولياتنا الكاملة جميعا كساسة اغلبية ومعارضة ولو كل بمقدار، حسب حجم مسؤولياتنا واختلاف مواقعنا.
هي ليست رسالة مفتوحة، بل قلب مفتوح يبوح بما يسكنه من هواجس وخوف على وطن نعتز أن نكون من صلبه وترابه، وطن تركه لنا أجداد أشاوس جعلوا من الكرامة شرطا للعيش، ومن النخوة مرادفا للانتماء، ومن الغيرة قيدا للانتساب ومن الملكية صماما للأمان ورمزا للوحدة.
فهل نحن اليوم في مستوى الإرث والأمانة وفي صلب وصايا الأجداد؟
المسؤولية عن تدبير الشأن العام أمانة توكل للأمين، أي لمن ائتمنه الناس على إدارة شؤونهم، وهي حساب في الدنيا وعقاب في الآخرة لمن استوعب عبء الامانة.
والأمين هو نقيض المخادع. فالأول يغير أفكاره لتتناسب مع الحقيقة، والثاني يغير الحقيقة لتتلاءم مع أفكاره، والحال مع مصالحه.
تتحدثون عن الانسجام الحكومي المزعوم، وهو ليس إلا خصاما وارتباكا معلومين. الانسجام الحقيقي الذي وجب السعي وراءه هو انسجام مع الشعب ومع طموحاته.
التعاقد الحقيقي ليس بين مكوناتكم الثلاث وإنما مع قرابة الثلاثين مليون مواطن المنهكين الذين أجهزت سياساتكم الارتجالية والمرتبكة على ما تبقى من جيوبهم وقفتهم ومائدتهم، لتنهار كرامتهم وينكسر شموخهم، وأنتم تتفرجون على محنهم وبقراراتكم المرتجلة تعمقون جراحهم، وكأنكم تشبعون نزوة أو تستمتعون بضائقتهم. أكيد ستجدون في هذا الوصف غلوا ومبالغة وتضخيما، لكنه هو الوجه الحقيقي للحقيقة التي تتجاهلون.
هو الإحساس نفسه والتوصيف ذاته اللذان يشعر بهما المواطنون عندما تشرعون في تعداد إنجازاتكم وتعرضون أشباه التدابير التي لا جدوى منها ولا تأثير.
أرقام ومؤشرات وميزانيات، في حين لا يزداد الوضع إلا تدهورا في عهد حكومة "الكفاءات" والأصح أنها حكومة المكافآت ! وكما ردد الأديب الفلسطيني مريد البرغوثي "هناك دائماً روايتان لكل ما يحدث: رواية صادق ورواية الحكومة".
رفعتم السقف عاليا بوعودكم الانتخابية التي لا سماء لها ولا أرضية، فحصدتم الأصوات وبلغتم الأماني وتلقيتم التهاني بفضل قدر انتخابي استثنائي. بعدها خفتت حناجركم وتهاوت أصواتكم وخف ضجيجكم، لتستكينوا الى صمت القبور وسكون الموتى، ليصدق عليكم قول ابن كثير: حي كمن مات إلا أنه صنم.
تركتم من استأمنوكم على شؤونهم فريسة للغلاء والتضخم والبلاء. الفرشة المائية تبخرت، والخضر تصدرت، واللحوم اشتعلت ورؤوس القطيع اضمحلت. وطلعة الأضحى غابت وحقوق ضحايا الزلزال ضاعت.
قرار اليوم، ونقيض له غدا! ارتباك اليوم، ورديف له غدا!
في عهدكم شل التعليم وتوعكت الصحة، وتخوصصت الخدمات، وانتفضت القرية طلبا لمسلك في الجبل، ورجاء في طبيب في المرتفع، وصبيب ربط عنكبوتي في زمن تحدي المغرب الرقمي ومغرب المونديال.
لم تستوعبوا رسائل الشباب ولا آهات الشيب. استمر عنادكم وتواصلت لجاجتكم. وتعالت تصفيقاتكم وتهليلاتكم فقط على إعلان نواياكم، وليس وقوفا على إنجاز يحسب لكم.
أعلنتم زورا، ومن منابر مختلفة، أن المغاربة فرحون وبإنجازاتكم مبتهجون، وهو ما استفز المواطنين، فجاءكم الرد من شباب الفنيدق الفارين، ومن مسيرة الهضبة السعيدة بأيت بوكماز. وفي جبال مكونة و قبلها في فكيك وغيرها، وانتفاضة مستشفى الموت بأكادير. فخرج وزيركم ليكتشف أن في المستشفى خصاصا، وهو يجهل أن الوضع هو نفسه في جميع القرى والمدن. فلا مناص!
وفي مشهد مثير وغير مألوف، تظهر طائرة من زاكورة تحمل طفلا في حالة حرجة نحو العاصمة في محاولة، رغم نبل البادرة، تثير الشفقة على من أملى هذا الإخراج الهزيل، لتنهال الاسئلة لماذا لم تظهر هذه الطائرة قبل انتفاضة مستشفى الموت، ولماذا لم يسمع لها هدير.
ويتواصل تعالى الأصوات وتناسل التعاليق وأقواها " إننا لسنا في حاجة إلى نقل الأطفال بالطائرات من زاكورة إلى مستشفى ابن سينا (السويسي) بالعاصمة الرباط، بل إننا نحتاج إلى نقل مستشفى (السويسي) إلى زاكورة، وتاونات وفكيك وطاطا وأنجيل وتارودانت وعرباوة وأرفود وتيمحضيت، وباقي المناطق المهمشة. نريد (سويسي) بكل أقاليم المملكة ".
ومرة أخرى يظهر الوزير، مدعيا الحزم مع كل تقصير ومتخذا جديد التدابير: إحداث لجان ميدانية خاصة لمواكبة إصلاح جميع المؤسسات الصحية. فبعد المجموعات الترابية للصحة، ها هو الوزير يحدث لجانا ميدانية، وبعدها لجانا محلية، تليها لجان آنية، إلا ما لا نهاية. وبين متاهات اللجان تضيع الصحة وينتصر المرض، ويؤدي المواطن الثمن. طبعا ليس من جيبه وإنما من عمره.
ومن مكناس يطل علينا الوزير، وبنفس جديد، ليبشرنا أنه، وفي آخر أنفاس الولاية، سيباشر الإصلاح وسيستعجل خصاص المستعجلات، وسيولي عناية خاصة لكل وحدات العناية المركزة، وسيوفر الأسرة حتى لا تنام عيون الأطباء والأطر، وسيجلب الحقن حتى لا يشكو المريض من قلة وخز شوكاتها أو من انتهاء صلاحية سائلها أو هلاك مستعمليها.
وتتواصل المفارقات في عهد حكومة الصفقات. ففي صورة سوريالية، يطلع علينا برلماني يدعي الاعتصام في مستشفى، بحجة الخصاص والنقص ومعاناة المرضى، وهو في الواقع أخطأ المرمى، لأنه في طليعة المهللين والمصفقين لوزراء أغلبيته المبجلين. والويل كل الويل لمن يجرأ على التنبيه إلى خصاص عند المساءلة أو المراقبة لعمل سعاداتهم أصحاب المعالي المكرمين.
اليوم ومع كل المشاهد التي نعاينها صوتا وصورة وهي تسوق حكاية فشل ذريع أبان عنه التحالف الثلاثي في الرؤية والإبداع والتدبير، اكتشفت مغزى وعمق قول فولتير: "من الخطير أن تكون على حق عندما تكون الحكومة على خطأ".
فالحكومة كما قال أحدهم "ليست سلطة على الناس ولكنها سلطة لخدمة الناس، لذلك فإن مقياس نجاح الحكومة هو رضا المتعاملين معها".
كثيرا ما اعتبرت الجريمة المنظمة من مصائب الشعوب، واليوم أصبحت الحكومة غير المنظمة مصيبتها الكبرى.
ليس العيب ان تفشل الحكومة بثالوثها وفريق "الأحلام" الذي طالما تغنت به في بداياتها، والذي عصف بكل آمال المغاربة، لكن العيب كل العيب أن تأخذها العزة بالإثم، وتواصل سياسة النعامة، بالتهرب والإنكار، متجاهلة أن الاعتذار من شيم الكبار!
ستتذكر الأجيال وسيشهد التاريخ أنه، وفي عهد الثلاثي، اختل الميزان، وبتدبيره تعطلت عجلة الفلاحة، وتحت سلطته طارت وتبخرت أحلام المغاربة وصارت حقوقهم الدستورية أوراشا عابرة وفرصا لتشريع الانتهازية وخدمة ذوي القربى من الأتباع والمطبلين وماسكي مزامير تبرير الفشل.
صحيح وهبت لكم القيادة، لكن قبل ذلك كان عليكم تعلم تحمل المسؤولية.
الضعيف يسمح للظروف بأن تحكمه، والقوي يصر على تحمل المسؤولية ليحكم نفسه رغما عن الظروف.
ختاما، ولأن المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين، أقول قد حان الوقت لإغلاق قوس هذه المرحلة وبناء أفق سياسي جديد يتوج بحكومة تليق بمستقبل بلد عظيم من حجم المغرب بقيادة ملكية حكيمة وبشعب وفي وصبور يزرع دوما بذورا تنبت سنابل الأمل.
(*) مقولة للمفكر المصري والصحفي الساخر جلال عامر
محمد أوزين ، الأمين العام لحزب الحركة الشعبية