Friday 12 September 2025
كتاب الرأي

عبد العزيز الخبشي: حماس بين عبء الزعامة وتواطؤ المحاور الإقليمية

عبد العزيز الخبشي: حماس بين عبء الزعامة وتواطؤ المحاور الإقليمية عبد العزيز الخبشي
لم يعد من الممكن اليوم مقاربة واقع حركة حماس بمعزل عن التناقضات التي خلقتها هي نفسها بين خطابها المقاوم وسلوكها السياسي المتشابك مع مصالح قوى إقليمية ودولية. فالسؤال الجوهري الذي يفرض نفسه هو: هل أصبحت حماس وزعماؤها عبئاً على مشروع المقاومة الفلسطينية، إلى درجة أن التخلص منهم صار ضرورة في نظر بعض الأطراف؟ إن التجربة الممتدة منذ سنوات، من الانقسام الفلسطيني إلى الارتهان لمحاور إقليمية متناقضة، تجعل من حماس جسماً ثقيلاً على القضية أكثر مما هي رافعة لها. فهي لم تعد ذلك الفصيل المقاوم المنغمس كلياً في مشروع التحرير، بل تحولت إلى ورقة مساومة بين أنقرة والدوحة وطهران وتل أبيب وواشنطن. من هنا، فإن الحديث عن استهداف قادة حماس لم يعد شأناً عسكرياً بحتاً بل جزءاً من هندسة سياسية إقليمية ترسمها القوى الكبرى، وترى أن بقاء هؤلاء الزعماء داخل المعادلة بات يضر أكثر مما ينفع، سواء من زاوية استمرار الانقسام الداخلي أو من زاوية تقييد الخيارات الإستراتيجية للفلسطينيين أنفسهم.
 
لقد وجد زعماء حماس أنفسهم في مفترق طرق خطير، فهم في تركيا محميون نسبياً بحكم عضويتها في حلف الناتو، ما يجعل استهدافهم العسكري من قبل إسرائيل أمراً محفوفاً بالمخاطر الجيوسياسية. لكن حين انتقلوا إلى قطر، تغيرت المعادلة جذرياً، إذ تحولت الدوحة من راعية سياسية إلى مصيدة مغلفة بالدبلوماسية. إن السؤال عن أسباب هذا التحول يقود مباشرة إلى طبيعة التفاهمات المضمرة بين قطر وأمريكا وإسرائيل، والتي تجاوزت الدعم الإنساني والوساطات الشكلية، لتدخل في صلب حسابات تصفية الزعامة الحمساوية، باعتبارها أصبحت عائقاً أمام إعادة ترتيب البيت الفلسطيني على المقاس الأمريكي والإسرائيلي. فهل كان قادة حماس واعين بحجم هذه المخاطرة حين قبلوا بالإقامة في الدوحة؟ أم أنهم انساقوا وراء وهم الدعم القطري دون إدراك أن هذا الدعم مشروط بتحييدهم في لحظة حاسمة؟
 
إن التواطؤ القطري لا يمكن عزله عن طبيعة دور الدوحة في المنطقة. فالدولة الصغيرة في جغرافيتها، الضخمة في أدوارها الإعلامية والمالية، لم تكن يوماً خارج المدار الأمريكي، بل شكلت إحدى أدواته الناعمة في إدارة ملفات المنطقة. وحين يتعلق الأمر بحماس، يصبح الدور أكثر حساسية، فواشنطن وتل أبيب وجدتا في قطر بوابة مناسبة لتدجين الحركة وإعادة صياغة سلوكها. وحين تعذر هذا التدجين بسبب تمسك بعض قادتها بخطاب المقاومة، لم تتردد الأطراف في البحث عن لحظة مناسبة لتصفيتهم، بعد أن تم إبلاغ قطر مسبقاً بالهجوم، وفق ما تسرب من معطيات. هنا يكمن جوهر المسألة: كيف يمكن لبلد يملك أحدث أنظمة الرصد الجوية، ويتبجح بقدراته الدفاعية، أن يفشل في كشف طائرات إسرائيلية اخترقت مجاله الجوي، بينما نفس البلد قادر على التنسيق العسكري مع واشنطن لاعتراض صواريخ إيرانية بعيدة المدى موجهة نحو إسرائيل؟ أليس في ذلك دليلاً دامغاً على أن الغياب القطري عن الفعل كان تغيباً مقصوداً لا عجزاً فنياً؟
 
إن تصريح رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري بأن الدوحة لم تتمكن من ضبط الطائرات الإسرائيلية التي استهدفت القادة الحمساويين، ليس سوى محاولة لتغطية الشمس بالغربال. فكيف يمكن تصديق هذا الادعاء بينما منظومات الدفاع الجوي القطرية، المندمجة عضوياً مع القيادة العسكرية الأمريكية في المنطقة، قادرة على رصد أي تحرك جوي مهما كان حجمه؟ لقد أظهرت تجارب سابقة أن قطر كانت جزءاً من شبكة إقليمية للتصدي لصواريخ إيرانية، وأنها نجحت بالتنسيق مع واشنطن وتل أبيب في حماية المجال الإسرائيلي من هجمات كانت قد تشل بنيته التحتية. فإذا كان هذا هو الواقع، فكيف يمر الهجوم الإسرائيلي في سماء الدوحة دون رصد أو اعتراض؟ إن التفسير الوحيد الممكن هو أن هناك تفاهماً مسبقاً، يتيح لإسرائيل تنفيذ عملية محدودة دون إرباك قواعد اللعبة الكبرى، شريطة أن يظهر الموقف القطري لاحقاً بمظهر العجز والبراءة. وهنا يصبح القادة الحمساويون ضحايا اتفاق ضمني، كانوا فيه الحلقة الأضعف.
 
إن هذه الحادثة تعيدنا إلى سؤال أعمق: هل حماس بحاجة إلى إعادة تعريف نفسها، أم أن القوى الكبرى قررت نيابة عنها مصيرها؟ فمن الواضح أن بقاء قادة الحركة على قيد الحياة، بوزنهم الرمزي والسياسي، كان يشكل خطراً على مشاريع إعادة هندسة النظام الإقليمي بما يتماشى مع التطبيع العربي الإسرائيلي المتسارع. إن التخلص منهم، سواء مادياً أو سياسياً، يفتح الطريق أمام جيل جديد من القيادات الأكثر استعداداً للتكيف مع شروط اللعبة الجديدة. وفي هذا السياق، يصبح قطر وأمريكا وإسرائيل ثلاثي التنسيق الذي يدير المرحلة الانتقالية، بينما تركيا تكتفي بلعب دور الحامي الظرفي لقادة الحركة طالما ظلوا داخل أراضيها، دون أن تتورط مباشرة في مواجهة قد تهز توازناتها داخل الناتو. بهذا المعنى، فإن انتقال الزعماء من أنقرة إلى الدوحة كان بمثابة انتقال من منطقة شبه آمنة إلى منطقة مكشوفة، وهو ما أتاح لإسرائيل أن تنفذ عمليتها بتواطؤ كامل من الأطراف الضامنة.
 
إن الخطر الأكبر لا يكمن فقط في خسارة حماس لقياداتها، بل في الرسالة الموجهة إلى الشعب الفلسطيني وقواه المقاومة: مفادها أن أي رهان على المحاور الإقليمية، وخاصة قطر، هو رهان على سراب. فالدول الصغيرة التي تبني قوتها على لعب أدوار الوسيط، سرعان ما تنقلب إلى أدوات لتصفية الحسابات، حين تجد نفسها أمام أوامر مباشرة من واشنطن. وهنا تصبح حماس مجرد ورقة تفاوضية يتم التخلص منها عند الحاجة، بينما تتحمل الشعوب وزر التضحية. إن النقد الحقيقي لحماس يجب أن ينصب على هذا الارتهان للمحاور، والذي جعلها عاجزة عن بناء مشروع مقاومة مستقل، يحصنها من الابتزاز والتصفية. فهل تدرك الحركة اليوم أن بقاءها مرهون بقدرتها على الانفكاك من هذه الشبكات المعقدة؟ أم أن قدرها أن تعيد إنتاج ذات الأخطاء حتى النهاية؟
 
إن حماس وزعماءها لم يعودوا فقط عبئا على المشروع الوطني الفلسطيني، بل تحولوا إلى عبء حتى على القوى التي احتضنتهم. فإسرائيل ترى في وجودهم عقبة أمام استكمال مسار التطبيع، وأمريكا تعتبرهم تهديدا لاستقرار مشروعها في المنطقة، وقطر وجدت في التخلص منهم فرصة لإثبات ولائها للمحور الغربي. أما الشعب الفلسطيني، فهو الخاسر الأكبر، إذ يرى قضيته تتآكل بين انتهازية القيادات وتواطؤ الأنظمة. من هنا، فإن الجواب على السؤال الأول يبدو واضحاً: نعم، حماس وزعماؤها أصبحوا عبئاً، ليس فقط في نظر خصومهم بل حتى في نظر حلفائهم. أما عن السؤال الثاني، فإن التواطؤ القطري الأمريكي الإسرائيلي لم يكن مجرد احتمال، بل كان واقعاً أثبتته الوقائع والتصريحات، وفضح هشاشة الشعارات التي تتغنى بالدعم للمقاومة بينما تخفي تحت الطاولة صفقات التصفية.