حكاية حزينة
عاشت فوزية كما لو أن الحياة ليست لها، وكأنها أمانة وُدِعَت في يدها لتسلمها يومًا ما دون أن تُحدث ضجيجًا.
كانت تمرّ على الأرض بلا صوت، ظلٌّ خفيف لا يزعج الهواء الذي يعبره.
كانت قليلة الكلام، وحين تفتح شفتيها، كان كل حرف يهبط كأنه يزن الدنيا كلها، كأنما أُطلق بعد استئذان طويل، مثل دعاء يُتلى في حضرة قداسة غامضة.
في المدرسة، كانت تلك التلميذة النجيبة الهادئة التي ينسى الجميع أن يصفقوا لها، لأنها لا تثير جلبة ولا ترفع صوتها.
كان المعلّمون يشيرون إليها في صمت كنموذج يُحتذى، لكن اسمها كان يتبخر في اللحظة نفسها، كأنه مكتوب على صفحة ماء.
ثم، في يوم لا يختلف عن سواه، فتحت الحياة، تلك البيروقراطية اللءيمة، ملفّها المختوم بختم القضاء والقدر، واستدعتها إلى امتحان لم تطلبه.
دخل المرض إلى جسدها كما يدخل مأمور التنفيذ إلى بيت مدين.
جلس في دمها، احتل لياليها وأنفاسها، وبدأ يعدّ أنفاسها كما يعدّ الفقيه الحبات في مسبحته.
لم تحتج فوزية.
لم تصرخ.
لم تغضب.
كان في عينيها ذاك الذهول الهادئ، كأنها تعتذر للمصير عن إرباكه بخبر مرضها.
لكن السماء، ذات صباح، انشقت عن ومضة من رحمة، ومرّت نسمة حبّ.
دخل الحبّ حياتها على استحياء، كعصفور يخاف أن يوقظها من حزنها.
تزوجت.
ومن هذا الزواج ولد طفل، جمرة دفء صغيرة في صقيع أيامها.
لبرهة قصيرة، أو ربما لسنوات معدودة، بدا أن الحياة تتردد: هل ستلين أخيرًا؟ هل ستعطيها فرصة؟
لكن المرض، غيورًا كأفعى سامة، استعاد مهمته بصرامة ساعة رملية.
ليلًا ونهارًا، بلا كلل ولا انقطاع، واصل حصاره عليها كما لو كان يريد استرداد دين قديم.
بدأت فوزية تذبل ببطء، كزهرة منسية على حافة نافذة مهجورة.
كل صباح، كانت تبدو أخفّ، كأن جسدها يتدرّب على الغياب، كأن خلاياها تتبخر قليلًا قليلًا كي تتخلص من الألم.
وعندما جاء يومها الأخير، رحلت بصمت.
لا صرخة. لا تمرّد.
فقط وداع مهذب، وانسحاب رقيق من مسرح الحياة، تاركة وراءها عطرًا خفيفًا وهدوءًا أعمق من ألف مرثية.
وفي قلوب من عرفوها، بقيت فوزية ظلًّا هشًّا، همسًا شفيفًا للروح، ذكرى دافئة تؤلم لأنها جميلة.
تركت وراءها رمز إنسانيتها: آدم، ذلك الامتداد البريء الذي سيحمل اسمها إلى الغد، وعبد الله، الزوج الصابر الذي حمل و سيحمل وحده عبء الحياة.