نظنّ غالبًا أننا نعرف فيلمًا ما من خلال حبكته وشخصياته الرئيسية وصراعه الدرامي. غير أنّ ما يبقى في ذاكرة المتفرّج ليس دائمًا ذلك، بل تفاصيل صغيرة: حركة عابرة، نظرة، أو حتى غرض بسيط يتحوّل إلى استعارة صامتة. في فيلم "فتى من سينسيناتي" (1965) للمخرج نورمان جويسون، يتذكّر الكثيرون المواجهة الكبرى بين لاعب البوكر الشاب الموهوب (ستيف ماكوين) والمايسترو العجوز (إدوارد ج. روبنسون). لكنّ ذكرى أخرى تفرض نفسها، أقلّ وضوحًا وأكثر عُمقًا: حضور آن-مارغريت، عشيقة البطل، الجالسة في غرفة فندق تعبث بقطع أحجية (Puzzle).
قد يبدو المشهد عابرًا، بلا قيمة، ولكنه في الحقيقة الوجه الآخر للبوكر. فالأحجية المزوّرة التي تقطعها المرأة وتعيد تركيبها تجسّد رؤية مختلفة للحياة، ووسيلة للتحايل على القدر، والانفلات من صرامة المصير. هي، أكثر من أوراق اللعب، ما يؤدي لسقوط البطل.
فيلم من ستينيات القرن العشرين: بين التقليد والتحوّل
أُنتِج "فتى من سينسيناتي" في منتصف ستينيات القرن العشرين، وهي مرحلة مفصليّة في السينما الأميركية. فالأسلوب لا يزال كلاسيكيًّا في مظهره، لكنّ ملامح التغيير بدأت تتشكّل: صمت أطول، إيقاع أبطأ، شخصيات أكثر التباسًا. ستيف ماكوين، الأيقونة الصاعدة آنذاك، يمثّل الشباب المتمرّد والمتوتّر، بينما يجسّد إدوارد ج. روبنسون ثقل التجربة ومهابة الجيل القديم.
صوّر جويسون لعبة البوكر كطقس مأساوي: نظرات مشدودة، عرق يتصبّب، وحركات محسوبة بدقّة. الطاولة تتحوّل إلى حلبة، حيث لا يُلعب المال فقط، بل تُلعب الأسطورة ذاتُها. في هذا العالم، لا مكان للتردّد أو الارتجال. على الفتى أن ينتصر. تلك هي "مهمّته"، قدره.
البوكر: أخلاق صارمة
البوكر هنا هو الاستعارة المثالية للأخلاق الصارمة. عالم تُقاس فيه الأمور بقاعدة واحدة: الانتصار. كلّ حركة محسوبة، كلّ ورقة مصيرية، وكلّ خصم عدوّ ينبغي هزمه. إنّه منطق بطولي، عمودي، مأساوي.
والفتى يمثّل هذا المنطق بكل تفاصيله: "أخيل" عصري، مهووس بالنصر، عاجز عن الانحناء أو المساومة. وجوده كلّه وتر مشدود. بالنسبة اليه، الحياة ليست مجالًا للعيش، بل ساحة معركة.
لعبة القطع: أخلاق لينة
وفي الجهة المقابلة، هناك هي. آن-مارغريت، بشَعرها الناريّ، بفستانها الأحمر الانسيابي، أنثى فاتنة، قطة متألّقة. لكنّ الأهم من جمالها هو طريقتها في النظر إلى العالم. لا تتابع البطولة، ولا تهتمّ بقوانين البوكر، بل تنتظر عشيقها في غرفة الفندق وتنشغل بتركيب الصورة المقطعة. وحين تعاندها قطعة ولا تستجيب لمكانها، تأخذ مقصًّا وتقصّها لتُرغِمها على أخذ مكان بين القطع.
هذا الفعل البسيط هو تمرّد صامت ضد القدر. فبينما يعتقد الفتى أن الصورة النهائية مرسومة سلفًا وأن لكلّ قطعة مكانًا وحيدًا لا بد أن تستقر فيه، تقول هي العكس: الحياة يمكن أن تُطوى وتُعاد صياغتها وتُخترع. تجسّد أخلاقًا لينة، متسامحة:
- متسامحة مع النقص واللااكتمال.
- مرنة أمام الصعوبات.
- متجذّرة في لحم العالم، أقرب إلى حكمة الناس البسطاء الذين "يدبّرون" أمورهم، ويرتجلون السبل ليجدوا الفرح الممكن.
هي لا تبحث عن المجد، بل عن لحظة عابرة من المتعة. تمثّل أسلوبًا آخر في الوجود: أكثر أرضيّة، أكثر آنية، وأكثر حرّية.
رؤيتان للمصير
يعرض الفيلم رؤيتين متقابلتين للحياة:
- البوكر: المصير فيه قدر صارم، مواجهة لا رحمة فيها، نصر أو سقوط.
-الصور المقطّعة: المصير فيه لوحة فسيفسائية مرنة، يمكن تركيبها كيفما اتّفق، حتى وإن استلزم الأمر قصّ الحواف.
في الأولى، يتكسّر الإنسان على جدار القانون الصلب. وفي الثانية، يتسلّل عبر الثغرات ويخترع لنفسه مخرجًا.
سقوط البطل
إنّ سقوط الفتى لا يعود فقط إلى براعة المايسترو العجوز. بل مصدره تلك الثغرة العميقة: عجزه عن الدخول في منطق الصورة المقطّعة. إنّ هوسه البطولي يجعله أعمى عن حقيقة أخرى: أن الحياة ليست ساحة ينبغي إخضاعها، بل فضاء ينبغي السكن فيه.
المرأة ليست خيانة، بل مرآة. تُظهر له أنّ سعيه وراء المجد مجرّد سراب، وأنّ انتصاراته مجرّد أوهام معلّقة في الفراغ. أمّا هي فتمثل جسد العالم، الجسد المرن الذي يقصّ القطع ويقبل النقص. وتلك الحقيقة الليّنة، المنزلقة، هي التي تطيح به.
شخصيات كونية
هذه المواجهة بين "الأخلاق الصارمة" و"الأخلاق الليّنة" ليست مقصورة على فيلم أميركي في الستينيات، بل هي خيط يتكرّر في أساطير العالم كلها، شرقًا وغربًا.
- "أخيل وأفروديت": في الميثولوجيا الإغريقية، أخيل هو الفارس الذي لا يعرف سوى الصراع. حياته مشدودة كوتر، يبحث عن المجد حتى لو قاده إلى الموت المبكر. في المقابل، أفروديت إلهة الحبّ والجمال، لا تحكمها القوانين ولا صرامة السيوف. إنّها تذكّر بأن العالم ليس فقط ساحة دماء، بل أيضًا لعبة إغواء ولحظة متعة.
- "أوديسيوس وكيركي": أوديسيوس البطل الماكر، لا يرى العالم إلا ساحة تحدٍّ، يسعى دائمًا إلى تجاوز العوائق والانتصار عليها. لكنّه يلتقي كيركي، الساحرة التي تحوّل الرجال إلى حيوانات، لا بالقتال بل بالسحر واللعب. إنّها منطق مختلف: لا مواجهة، بل سحر يحوّل شكل الأشياء.
- "تريستان وإيزولت": في الحكايات الوسيطة الأوروبية، تريستان هو المحارب النبيل، يعيش للأمانة والشرف. بينما إيزولت تجسّد الحبّ العابر، قوة الانجذاب التي تخرق كلّ القوانين. لقاؤهما لحظة برق، لكنه محكوم بالفناء.
- "شهرزاد وشهريار": في "ألف ليلة وليلة"، شهريار هو القانون الصارم، يعيد القتل كل فجر. شهرزاد تجسّد الحيلة: تقصّ الحكايات وتقطّعها لتربح الوقت. هي تعرف أن الحياة يمكن إنقاذها بالقصّ، بالتلاعب بالقطع.
- "أرْجُنا وكريشنا": أرْجُنا الفارس الهندي يقف حائرًا بين واجبه ورحمته، يمثّل الأخلاق الصارمة. أما كريشنا، إله الناي، فيذكّره أن الكون لعبة رقص وأغنية، لا مجرّد حرب.
- "رُسْتَم والسيمرغ": رستم بطل فارس، لا يتقدّم إلا بالسيف، أمّا السيمرغ، الطائر العجيب، فيتدخّل بالنعومة ليغيّر مجرى الأحداث.
- "الساموراي والغيشا": الساموراي يموت في سبيل الشرف، يعيش وفق قانون حديدي، بينما الغيشا تحوّل العالم إلى مسرح للجمال العابر، للحظة الحسية التي لا تدوم.
في كل هذه الأمثلة، يتكرّر المشهد ذاته: "البطل الصارم الذي يسقط تحت ثقل قواعده، والمرأة أو الكائن الليّن الذي ينجو بفضل قدرته على إعادة قصّ الصورة وتركيبها من جديد".
لعبة الصور المقطّعة كاستعارة كونية
الأحجية في الفيلم ليست مجرّد لعبة تسلية، بل يمكن أن نقرأها كاستعارة كونية للحياة نفسها. فالحياة لا تقدَّم لنا كلوحة كاملة، بل كقطع متفرّقة، كذكريات مبعثرة، كأحداث متناثرة: لقاء، فقدان، صدفة، فرح عابر، ألم مباغت. نحن نحاول أن نركّب هذه القطع لنصنع منها صورة مفهومة، وكأنّنا نسعى إلى اكتشاف "المعنى النهائي" لحياتنا.
- بالنسبة للفتى، هذه الصورة النهائية موجودة سلفًا. كلّ قطعة لها مكان محدَّد، ولا مجال للتلاعب. هكذا يرى الحياة كقدر صارم لا يقبل الخطأ.
- أمّا الفتاة، فتقول شيئًا آخر: الصورة ليست مهمّة بقدر ما هو مهمّ أن نصنع لأنفسنا شكلًا مقبولًا. إذا لم تنسجم القطعة، نعيد قصّها. إذا تعثّر القدر، نعيد تشكيله.
بهذا تصبح لعبة الصورة المقطعة وسيلة للتحايل على المصير، أداة لجعل القدر أكثر ليونة وقابلية للعيش. فهي لا تلغي الفوضى أو النقص، بل تعترف بهما وتحوّلهما إلى مجال للحرية. إنّها حكمة يومية، شبيهة بحياة الناس البسطاء الذين يقصّون الأقمشة ليلائموا احتياجاتهم، أو يصلحون الأدوات القديمة ليجعلوها صالحة للاستعمال من جديد.
في مواجهة مأساوية البوكر، حيث كلّ ورقة قد تعني النهاية، تمنحنا هذه اللعبة نموذجًا آخر: ليست هناك صورة نهائية يجب أن نكشفها، بل صور ممكنة نصنعها بمهارتنا ومقصّنا.
فنّ قصّ القِطَع
إنّ "فتى من سينسيناتي" ليس فيلمًا عن البوكر فحسب، بل هو حكاية حديثة عن طريقتين للعيش: الأولى مأساوية، مشدودة، لا ترى سوى المجد والانتصار أو السقوط؛ والثانية لينة، متسامحة، متجذّرة في لحم العالم، تعرف كيف تدبّر حياتها بالترتيب والقصّ.
المرأة-الأحجية ليست شخصية ثانوية، بل هي المفتاح. تجسّد حكمة شعبية تقول إنّ الحياة لا تُعاش في صرامة القوانين، بل في مرونة الحيلة. فالأهم ليس أن نعيد اللوحة إلى كمالها الأصلي، بل أن نصنع صورة نستطيع العيش داخلها.
وهكذا يقدّم الفيلم درسًا بسيطًا وعميقًا في آن: الحياة لا تحتاج إلى كمال مطلق، بل إلى شجاعة قصّ القطع الزائدة، وتقبّل النقص، والابتسام للصورة الناتجة. ليست البطولة في السيطرة على المصير، بل في القدرة على جعله أكثر قابلية لانزلاقات الحياة.