جاء مشروع مخيّم البُناة بعين خرزوزة سنة 1949 في ظرفية دقيقة من تاريخ فرنسا والمغرب. فبعد انتصار فرنسا في الحرب العالمية الثانية وسقوط نظام فيشي، عادت الأحزاب الاشتراكية والتقدمية لتفرض توجهاتها على السياسة العامة، خصوصًا عبر وزارة الشبيبة والرياضة التي تبنت مشروع التربية الشعبية كوسيلة لإعادة بناء المجتمع بعد الحرب. وقد انعكس هذا التوجه على المغرب الخاضع للحماية.
وهذا ما يؤكده الدكتور أميلي وعبد الواحد الراضي في كتاباتهم، مما يعكس الدينامية التي عرفتها وزارة الشبيبة والرياضة وأطرها النوعية التي من أبرزها Ernest Thibault، فازدهرت التداريب في مجال التنشيط التربوي، وصارت المخيمات الصيفية فضاءات للتجريب البيداغوجي.
في هذا السياق وُلد ورش "البُناة" كأول تجربة ميدانية ضخمة في الأطلس المتوسط، جمعت بين الأطفال الفرنسيين والمغاربة في مشروع مشترك.
1- أحداث ورش مخيم البُناة 1949: مغامرة الأطفال في خرزوزة
قبل أن نغوص في تفاصيل المخيم، دعونا نحكي قصة للأطفال والأطر الذين وطأت أقدامهم عين خرزوزة.
هذه القصة ليست فقط مجرد سرد تاريخي لبعض الاحداث، بل رحلة حية تجعل القارئ يشعر وكأنه يمشي معهم على مسالك الأطلس المتوسط، يرفع الحجارة الثقيلة، يخلط الأسمنت، ويحمل الخشب، ويضحك تحت أشعة الشمس مع أصدقائه الجدد.
في صباح 7 يونيو، وصل أول فوج من الأطفال من مكناس وصفرو، عيونهم تتلألأ بالحماس وقلوبهم مملوءة بالفضول. لم تكن الرحلة سهلة؛ الطرق وعرة، والجبال شاهقة، والحقائب محملة بمعدات البناء الثقيلة وأدوات الحياة اليومية في الخيام. كل خطوة كانت تحديًا، وكل حمل ثقيل كان يختبر صبرهم ونضجهم قبل أوانهم.
سرعان ما انضم إليهم فوج من الرباط، ثم المدير المشرف على الورش السيد "دارن" على متن سيارة "جيب"، ليصبح العدد الإجمالي 57 طفلًا بينهم 14 مغربيًا.
من اللحظة الأولى، شعر الأطفال أنهم ليسوا مجرد ضيوف، بل مسؤولون عن المكان ومستقبله، وأن جهودهم ستتحول إلى واقع ملموس يمكن أن يفتخروا به.
كانت مهام الأطفال صعبة ومتنوعة، فإلى جانب رفع الحجارة وخلط الأسمنت وصنع الخرسانة، كان عليهم شق مسلك وسط الغابة لتسهيل مرور الشاحنات المحملة بالإسمنت والخشب، وهو عمل استنزف طاقتهم وأجبرهم على التعاون الجماعي في كل خطوة.
ومع كل حجر يوضع وكل خيمة تُنصب، كانوا يكتسبون إحساسًا بالإنجاز والمسؤولية، ويتعلمون كيف يمكن لجهود صغيرة ومشتركة أن تتحول إلى إنجاز كبير.
في 19 يونيو، وبعد أيام من العمل المضني، جاء ت لحظة فراق حزينة تزامن مع حلول شهر رمضان مما جعل الأطفال الصفراويين يغادرون ورش المخيم.
كان الوداع مؤثرًا جدًا، حيث احتضن الجميع بعضهم البعض، وأدرك الأطفال الباقون معنى التضامن والمسؤولية تجاه رفاقهم، وترك هذا الحدث أثرًا عاطفيًا عميقًا في الذاكرة الجماعية للمخيم.
ورغم صعوبة المهام، استمر الأطفال في نضالهم اليومي؛ كل صباح كان يبدأ برنين الجرس المبكر، جمع الأطفال على التوالي لغسل وجوههم وتنظيف الخيام قبل الإفطار. بعد ذلك، كانت فرق العمل تتوزع: بعضهم في بناء الأكواخ، وأخرى في تجهيز المطبخ والمرافق الأساسية، وجماعة في العناية بالمساحات الخضراء. كل حركة، كل حجر، وكل قطرة عرق كانت درسًا عمليًا في التعاون والانضباط والمسؤولية.
وفي أوقات الراحة، كان الأطفال يشاركوا في الألعاب الجماعية، الغناء، ورواية الحكايات حول نار المخيم، ما عزز الروابط بينهم، بينما أتاح لهم ورش التعلم الحر تجربة الرسم، الحرف اليدوية، وتعلم بعض مبادئ الإسعافات الأولية بعيدًا عن الضغط الرسمي.
في 14 يونيو، وصلت أول شاحنة محملة بـ5 أطنان من الإسمنت، بعد أن شُق الطريق بجهودهم، فشعر الجميع بالفخر وكأنهم جزء من مشروع أكبر من أعمارهم. ومع حلول يوليوز، بدأت أورش البناء الجماعي تأخذ شكلها النهائي: الأكواخ الخشبية ترتفع، المطبخ والمرافق تُجهّز، والجدران تُبنى في ظل أجواء يسودها المرح والعمل المتواصل.
وفي 14 يوليوز، احتفل الأطفال بعيد فرنسا الوطني في إفران، مردّدين نشيد البُناة، الذي أصبح رمزًا للانتماء والفخر الجماعي.
« Au sommet de ces monts, bâtissons dans l'espérance notre Cité de l'enfance où tous changeront. »
خلال أيام المخيم، لم يكن الأطفال يتعلمون البناء والعمل فقط، بل كانوا يتعلمون الصبر والانضباط، الاعتماد على النفس، وقيمة التضامن الجماعي. كل يوم كان يحمل مغامرة جديدة، وكل لحظة تضيف تجربة فريدة في حياة كل طفل، لتظل ذكرى المخيم محفورة في قلوبهم إلى الأبد.
2- التحليل والدلالات ورش 1949 انطلاقا بيداغوجية فريني ( مجلة مكتبة العمل )
تجربة مخيم البُناة بعين خرزوزة سنة 1949 ليست فقط مجرد حدث تاريخي، بل أيضا درس شامل في التربية الشعبية والتربية بالعمل وفق مبادئ سيلستان فريني. ويمكن تحليلها عبر المحاور التالية:
أ-) التربية بالممارسة: المدرسة الحية (فريني)
المخيم جسّد فلسفة فريني الأساسية ألا وهي التعلم بالممارسة الفعلية والمسؤولية المباشرة. الأطفال لم يكونوا مجرد متلقين للمعلومة، بل بناة حقيقيين لمساحتهم، يرفعون الحجارة، يخلطون الأسمنت، ويشاركون في اتخاذ القرارات اليومية، حيث يصبح كل نشاط عملي درسًا تربويًا متكاملاً.
ب-) المواطنة والمسؤولية المبكرة
من خلال المشاركة العملية في بناء المخيم، تعلم الأطفال قيم المواطنة، الانضباط، والتعاون الجماعي، وهو ما يؤكد مبدأ فريني في تشكيل شخصيات واعية ومسؤولة. كل طفل أصبح مشاركا فعليا في المشروع، يدرك قيمة التزامه تجاه الجماعة.
ج-) البعد الاجتماعي والثقافي: لقاء وتفاعل الأطفال من ثقافات مختلفة
جمع المخيم بين الأطفال المغاربة والفرنسيين، مما جعل التجربة متعددة الأبعاد: تربوية وفق فريني، ثقافية وسياسية في سياقها التاريخي.
اللقاء المبكر عزز قيم التفاهم، الاحترام المتبادل، والتعايش، وطبّق مبدأ فريني في الديمقراطية القاعدية وحرية التعبير داخل الفضاء التعليمي.
اللقاء المبكر عزز قيم التفاهم، الاحترام المتبادل، والتعايش، وطبّق مبدأ فريني في الديمقراطية القاعدية وحرية التعبير داخل الفضاء التعليمي.
د-) الإبداع والتعلم الحر: فضاءات الابتكار والمبادرة
شمل المخيم ورشات حرة وأنشطة إبداعية، تعكس مبدأ فريني في حرية التعبير واكتشاف الطاقات الفردية. الأطفال تعلموا حل المشكلات، المبادرة، والتخطيط الجماعي في بيئة تسمح بالتجربة والخطأ، بما يعزز التعلم الذاتي والمسؤولية الفردية.
هـ-) الرمزية التاريخية والإرث المستدام
المخيم أصبح رمزًا للانتماء والفخر الجماعي، وطبق مبادئ فريني عمليًا: التعلم بالممارسة، العمل الجماعي، والتجربة المباشرة. الخبرة العملية تركت إرثًا تربويًا مستدامًا يمكن أن يُستثمر في برامج شبابية معاصرة.
و-) الدرس التقدمي: من الماضي إلى المستقبل
التحليل يظهر أن التربية الشعبية وفق فريني مشروع اجتماعي وتربوي شامل قادر على تكوين مواطنين فاعلين وملتزمين يساهمون في رفعة المجتمع.
إعادة النظر في إرث المخيم يسمح بإنشاء جسر بين الماضي والحاضر، وإحياء قيم التعاون والمسؤولية والإبداع في الأجيال الجديدة.
3- البدائل الممكنة لاستعادة القيمة التاريخية والرمزية للمخيم
رغم مكانته التاريخية، فقد تعرض مخيم خرزوزة للتهميش رغم مجهودات المجتمع المدني وفي طليعتهم حركة الطفولة الشعبية التي شكلت امتدادًا تاريخيًا لورش 1949 بفضل سواعد أطرها.
هذا التهميش يتجلى في إقصاء هذا الفضاء التاريخي من شبكة التخييم لسنتين متتاليتين، نتيجة تركه في حالة ركود لفترة طويلة رغم جهود ورش الطفولة الشعبية من 1988 إلى 2013.
لاستعادة دور المخيم الرمزي والتربوي، نقترح البدائل التالية:
- ترميم المرافق التاريخية (الأكواخ، المطبخ، المسالك)، مع الحفاظ على الطابع التاريخي للمخيم.
- إحياء مخيم عين خرزوزة وعودته إلى شبكة التخييم
- إنشاء فضاء متحف للذاكرة التخييمية بالمغرب.
- جعل خرزوزة منبرا لتنظيم مناظرات وحلقات للتفكير الجمعي ومنبرا للتصميم التشاركي بين مختلف المتدخلين في قطاع الطفولة والشباب.
- فتح المخيم للبحث والدراسة بالتعاون مع الجامعات والمؤسسات الثقافية، لإبراز دوره التاريخي والتربوي.
- إشراك المجتمع المدني الدولي في فعاليات توثيقية واحتفالات سنوية تعيد المخيم إلى الواجهة الدولية.
في الأخير يبقى مخيم البُناة بعين خرزوزة أيقونة للتربية الشعبية والمغامرة الجماعية، حيث اختبر الأطفال لأول مرة معنى المسؤولية والتعاون في مواجهة التحديات الحقيقية. تجربة 1949 لم تكن مجرد بناء أكواخ أو تنظيم ألعاب، بل كانت درسًا حيًا في الحياة وفق بيداغوجية فريني، وإرثًا تربويًا يذكرنا بقيمة إشراك الأطفال في صنع عالمهم.
اليوم، وبعد سنوات من التهميش والإقصاء، يطرح المخيم سؤالًا مفتوحًا: كيف يمكن لمكان بهذه القيمة التاريخية والرمزية أن يعود ليكون فضاءً حيًا للتعلم، للذكريات، وللإلهام للأجيال الجديدة؟
إن إعادة الاعتبار لخرزوزة ليست مجرد وفاء للماضي، بل استثمار في الحاضر والمستقبل، وإحياء لروح الأطفال الذين وضعوا أساسات البُناة في قلب الأطلس المتوسط.