لم تكن لحظة توديع ناصر الزفزافي لجثمان والده لحظة عائلية عابرة، بل تحولت إلى مشهد وطني بامتياز. فقد تابع المغاربة عبر شاشات الهواتف وشبكات التواصل الاجتماعي صورة استثنائية تجمع بين الفقدان الإنساني والرمزية السياسية: ابن خرج من زنزانته ليلقي النظرة الأخيرة على والده الراحل، الذي وافته المنية بعد صراع طويل مع المرض، وسط حشود غفيرة جاءت لتقديم واجب العزاء، ووسط انتظارات لم تخل من شغف وتأويلات. غير أن ما ميز هذه اللحظة هو أن الزفزافي لم يكتفِ بممارسة طقوس الوداع، بل اختار أن يخاطب الجماهير من فوق سطح منزله بكلمات صادقة حملت أكثر من رسالة إلى الداخل والخارج، في مشهد رمزي لا يقل قوة عن الحدث نفسه.
المشهد الأول الذي انطبع في وجدان الرأي العام هو البعد الإنساني الخالص: شاب في ربيع العمر فقد أباه وهو بين جدران السجن، ليمنحه القدر لحظة قصيرة يلتقي فيها الجثمان قبل أن يوارى الثرى. في تلك اللحظة بدا أن الحزن الشخصي أصدق من أي خطاب سياسي، وأن دموع الفقدان تختزل ما عجزت عنه المرافعات والبيانات.
وعلى الرغم من أن اسم الزفزافي ارتبط بالحراك الاجتماعي في الريف، فإن خطابه في جنازة والده تجاوز الجغرافيا الضيقة، ليتحدث عن الوطن كله من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه. كان الرجل واضحا في رفضه لأي تأويلات انفصالية أو محاولات خارجية للركوب على مطالبه. وهنا تبرز قوة الخطاب العفوي الصادق، الذي لا ينطلق من حسابات سياسية ضيقة، بل من إحساس بالانتماء للوطن ككل.
لم يكتف الزفزافي بطمأنة الداخل، بل بعث أيضا برسائل مباشرة إلى الأطراف الخارجية التي حاولت استغلال قضيته، وخاصة النظام الجزائري الذي غذى خطاب “جمهورية الريف” الورقية. ومن خلال كلماته الصريحة والحاسمة، أطلق الزفزافي من فوق سطح منزله رسالة قاطعة: الوطن لا يقبل التجزئة، والانتماء للمغرب ليس موضوعا للتفاوض. وبذلك يكون الزفزافي قد أسقط تلك الأطروحة وأكد أن الانتماء للمغرب ليس موضوعا للتأويل أو المساومة.
فعلا، لقد وجه صفعة قوية للانفصاليين الذين حاولوا استغلال اسمه لشرعنة مشاريعهم السياسية، مؤكدا أن قضيته لا تتعارض مع الوحدة الترابية، بل تندرج ضمن سعي مشروع نحو عدالة اجتماعية وحقوق مواطنة داخل الوطن الواحد. أما اختياره إلقاء خطابه من فوق سطح بيته فلم يكن مجرد تفصيل تقني، بل له دلالات عميقة. فالمكان يوحي بالعودة إلى الجذور والارتباط بالأرض، والعلو في الآن ذاته على الأصوات المغرضة التي حاولت اختطاف قضيته.
لقد بدا المشهد كأنه مسرح رمزي يعلن فيه الرجل تجاوزه لمناورات الخارج، ورغبته في رسم أفق جامع يتسع لكل المغاربة.
إن أهم ما تميز به خطاب الزفزافي هو صدقه وعفويته. لم يكن معدا سلفا ولا محكوما بحسابات انتخابية أو مؤسساتية، بل جاء نابعا من قلب رجل عاش تجربة قاسية وظل أمينا لخطابه.
جسد الزفزافي ما قد يفتقده كثير من المنتخبين والسياسيين: الصدق، العفوية، والمباشرة. لقد قدم نموذجا مغايرا للفاعل الذي يطمح الناس أن يمثلهم: قريب من همومهم، متجرد من المناورة، متمسك بالوطن كإطار جامع، أي الفاعل الذي لا يسعى وراء المناصب أو الامتيازات، بل يتحدث بلسان الناس ووجدانهم.
في لحظة عاطفية كهذه، قدم درسا بليغا في معنى القرب من المواطن، وفي كون السياسة ليست فقط مؤسسات وقوانين، بل أيضا أخلاق والتزام ومسؤولية.
ورغم الطابع العاطفي لخطابه، فإن كلمات الزفزافي تحمل مؤشرات قد تفتح أفقا جديدا لملف معتقلي الريف. فحين يعلن رمز الحراك وفاءه للوحدة الوطنية، فإنه يفتح الباب أمام مقاربة جديدة تتجاوز منطق الصراع إلى منطق التسوية والإنصاف. فهذا المسار لا يخدم فقط مصالح المعتقلين وعائلاتهم، بل يعزز أيضا صورة “المغرب الحقوقي” كدولة تعمل على مراكمة الإصلاحات وتوسيع فضاءات الحرية والكرامة.
لحظة توديع ناصر الزفزافي لوالده لم تكن مجرد حدث عاطفي عابر، بل تحولت إلى محطة مفصلية أعادت رسم صورة الرجل وموقعه في النقاش العمومي. لقد جمعت بين المأساة الإنسانية والرمزية السياسية، وبين الوفاء للأب والانتماء للوطن.
إنها لحظة تختزل كيف يمكن للألم الشخصي أن يتحول إلى رسالة جماعية، وكيف للحزن الفردي أن يغدو درسا سياسيا وأخلاقيا. كما تظهر كيف يمكن لصوت عفوي أن يسقط أوهام الانفصال، ويمنح في الوقت ذاته بصيص أمل في تجاوز الجراح وبناء الثقة من جديد.
المشهد الأول الذي انطبع في وجدان الرأي العام هو البعد الإنساني الخالص: شاب في ربيع العمر فقد أباه وهو بين جدران السجن، ليمنحه القدر لحظة قصيرة يلتقي فيها الجثمان قبل أن يوارى الثرى. في تلك اللحظة بدا أن الحزن الشخصي أصدق من أي خطاب سياسي، وأن دموع الفقدان تختزل ما عجزت عنه المرافعات والبيانات.
وعلى الرغم من أن اسم الزفزافي ارتبط بالحراك الاجتماعي في الريف، فإن خطابه في جنازة والده تجاوز الجغرافيا الضيقة، ليتحدث عن الوطن كله من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه. كان الرجل واضحا في رفضه لأي تأويلات انفصالية أو محاولات خارجية للركوب على مطالبه. وهنا تبرز قوة الخطاب العفوي الصادق، الذي لا ينطلق من حسابات سياسية ضيقة، بل من إحساس بالانتماء للوطن ككل.
لم يكتف الزفزافي بطمأنة الداخل، بل بعث أيضا برسائل مباشرة إلى الأطراف الخارجية التي حاولت استغلال قضيته، وخاصة النظام الجزائري الذي غذى خطاب “جمهورية الريف” الورقية. ومن خلال كلماته الصريحة والحاسمة، أطلق الزفزافي من فوق سطح منزله رسالة قاطعة: الوطن لا يقبل التجزئة، والانتماء للمغرب ليس موضوعا للتفاوض. وبذلك يكون الزفزافي قد أسقط تلك الأطروحة وأكد أن الانتماء للمغرب ليس موضوعا للتأويل أو المساومة.
فعلا، لقد وجه صفعة قوية للانفصاليين الذين حاولوا استغلال اسمه لشرعنة مشاريعهم السياسية، مؤكدا أن قضيته لا تتعارض مع الوحدة الترابية، بل تندرج ضمن سعي مشروع نحو عدالة اجتماعية وحقوق مواطنة داخل الوطن الواحد. أما اختياره إلقاء خطابه من فوق سطح بيته فلم يكن مجرد تفصيل تقني، بل له دلالات عميقة. فالمكان يوحي بالعودة إلى الجذور والارتباط بالأرض، والعلو في الآن ذاته على الأصوات المغرضة التي حاولت اختطاف قضيته.
لقد بدا المشهد كأنه مسرح رمزي يعلن فيه الرجل تجاوزه لمناورات الخارج، ورغبته في رسم أفق جامع يتسع لكل المغاربة.
إن أهم ما تميز به خطاب الزفزافي هو صدقه وعفويته. لم يكن معدا سلفا ولا محكوما بحسابات انتخابية أو مؤسساتية، بل جاء نابعا من قلب رجل عاش تجربة قاسية وظل أمينا لخطابه.
جسد الزفزافي ما قد يفتقده كثير من المنتخبين والسياسيين: الصدق، العفوية، والمباشرة. لقد قدم نموذجا مغايرا للفاعل الذي يطمح الناس أن يمثلهم: قريب من همومهم، متجرد من المناورة، متمسك بالوطن كإطار جامع، أي الفاعل الذي لا يسعى وراء المناصب أو الامتيازات، بل يتحدث بلسان الناس ووجدانهم.
في لحظة عاطفية كهذه، قدم درسا بليغا في معنى القرب من المواطن، وفي كون السياسة ليست فقط مؤسسات وقوانين، بل أيضا أخلاق والتزام ومسؤولية.
ورغم الطابع العاطفي لخطابه، فإن كلمات الزفزافي تحمل مؤشرات قد تفتح أفقا جديدا لملف معتقلي الريف. فحين يعلن رمز الحراك وفاءه للوحدة الوطنية، فإنه يفتح الباب أمام مقاربة جديدة تتجاوز منطق الصراع إلى منطق التسوية والإنصاف. فهذا المسار لا يخدم فقط مصالح المعتقلين وعائلاتهم، بل يعزز أيضا صورة “المغرب الحقوقي” كدولة تعمل على مراكمة الإصلاحات وتوسيع فضاءات الحرية والكرامة.
لحظة توديع ناصر الزفزافي لوالده لم تكن مجرد حدث عاطفي عابر، بل تحولت إلى محطة مفصلية أعادت رسم صورة الرجل وموقعه في النقاش العمومي. لقد جمعت بين المأساة الإنسانية والرمزية السياسية، وبين الوفاء للأب والانتماء للوطن.
إنها لحظة تختزل كيف يمكن للألم الشخصي أن يتحول إلى رسالة جماعية، وكيف للحزن الفردي أن يغدو درسا سياسيا وأخلاقيا. كما تظهر كيف يمكن لصوت عفوي أن يسقط أوهام الانفصال، ويمنح في الوقت ذاته بصيص أمل في تجاوز الجراح وبناء الثقة من جديد.
د مصطفى عنترة، كاتب صحفي