من يتجول في شوارع فاس صباحاً أو مساءً، لا يحتاج إلى كثير من الشرح ليقف عند عمق أزمة النقل الحضري التي باتت معضلة حقيقية تنغص حياة الساكنة وتضع المدينة في خانة المدن العاجزة عن توفير أبسط شروط التنقل لمواطنيها. السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح هو: إلى متى ستستمر هذه الأزمة؟ فقد أصبح هذا الملف شائكاً إلى حدّ بات معه المواطن يفقد الثقة في قدرة السلطة المحلية والمنتخبة على تدبير قطاع حيوي يمس الحياة اليومية بشكل مباشر. لقد انتظر الجميع أن يكون الدخول المدرسي مناسبة لإعطاء دفعة جديدة للقطاع، خصوصاً مع ما تم الترويج له حول إطلاق ثلاثين حافلة جديدة مع بداية الموسم، غير أن ذلك ظل وعداً مؤجلاً، وكأن المدينة محكومة بمنطق الارتجال والتسويف. وهو ما يضع مستقبل الطلبة، والموظفين، والعمال أمام معاناة يومية لا تنتهي، ويجعل صورة فاس كمدينة عريقة تتهاوى أمام أعين ساكنتها وزوارها على حد سواء.
وإذا كان من المفروض أن تكون المجالس المنتخبة في خدمة الساكنة، وأن تسعى إلى تحسين شروط عيشها من خلال وضع حلول جذرية لمعضلات النقل والتنقل، فإن ما نراه اليوم هو عجز مطبق وغياب تام للرؤية الاستراتيجية. فالمجالس السابقة، كما الحالية، لم تنجح في تقديم أي بديل واقعي وملموس يضع حداً لهذا النزيف اليومي الذي يعاني منه الطلبة والنساء والموظفون وكل الشرائح الاجتماعية. وفي غياب هذه الحلول، تحولت أزمة الحافلات إلى فضيحة سياسية بامتياز، تكشف حجم الفشل في التخطيط، وتؤكد أن الخطابات الانتخابية التي تغنت بتحسين خدمات النقل لم تكن سوى شعارات جوفاء. بل أكثر من ذلك، فإن السلطة المحلية بدورها لم تستطع أن تمارس دورها كاملاً في فرض التزامات الشركة المفوض لها التدبير، وهو ما يجعل الملف يراوح مكانه بين شد وجذب لا نهاية له، بينما المواطن البسيط يظل الخاسر الأكبر.
لقد أصبح من اللازم اليوم أن تتدخل وزارة الداخلية بشكل مباشر لإعادة ترتيب الأوراق في هذا القطاع الذي يختنق تحت وطأة سوء التدبير وتراكم الأعطاب. ففاس، باعتبارها مدينة كبيرة ذات كثافة سكانية متزايدة، لا يمكن أن تستمر رهينة لنقل حضري هشّ ومترهل، يفتقر إلى الحد الأدنى من الكرامة والجودة. فالطلبة الذين يكدحون يومياً من أجل بلوغ مؤسساتهم التعليمية يظلون عالقين في محطات مكتظة، يتأخرون عن حصصهم الدراسية، ويفقدون الكثير من الجهد النفسي والجسدي في سبيل التنقل، فيما الموظفون يواجهون نفس المحنة مع بداية كل يوم عمل. وفي غياب الحافلات الجديدة التي كان من المنتظر أن تنعش الأسطول، تظل الأزمة مستمرة ومفتوحة على المجهول، مما يزيد من شعور المواطنين بأنهم متروكون لمصيرهم أمام عجز محلي وتهاون رسمي لا يليق بمدينة بحجم فاس.
إن الاستمرار في تأجيل الحلول وتحويل هذا الملف إلى مجرد ورقة للمزايدات السياسية سيضاعف من حدة الاحتقان الاجتماعي ويجعل ثقة المواطنين في مؤسساتهم تتراجع أكثر فأكثر. فالحافلات التي كان يفترض أن تنطلق مع بداية الموسم الدراسي ليست مجرد وسيلة نقل، بل هي شريان حياة لآلاف الطلبة الذين يعانون الأمرّين في غيابها. غير أن هذه الحافلات بقيت مجرد وعود، ومصيرها مؤجل إلى أجل غير معروف، وكأن معاناة الناس أمر ثانوي لا يستحق أن يوضع في سلم الأولويات. وهذا يكشف خللاً بنيوياً في التفكير السياسي المحلي، ويجعل سؤال: "إلى متى ستستمر أزمة الحافلات؟" سؤالاً مشروعاً وملحّاً، بل سؤالاً يمس جوهر العدالة الاجتماعية وحق المواطن في خدمات عمومية تحفظ له كرامته.
وإذا كانت فاس، بتاريخها ومكانتها، تستحق أن تكون نموذجاً في التدبير الحضري العصري، فإن واقعها اليوم يحاكي مدناً متروكة تعاني من تهميش ممنهج. فأزمة النقل لم تعد مجرد مشكل تقني أو نقص في الأسطول، بل تحولت إلى صورة عن عجز السياسات العمومية المحلية في ضمان الحد الأدنى من الحقوق الأساسية للساكنة. إن استمرار الطلبة في المعاناة، واستمرار الموظفين والنساء في الانتظار الطويل بمحطات غير مجهزة، يعكس انحرافاً عن مسار التنمية المفترضة، ويجعل الساكنة في مواجهة مباشرة مع فشل المؤسسات. ولعل تدخّل وزارة الداخلية بات ضرورة قصوى، ليس فقط لفرض انضباط الشركة المفوضة، بل لإعادة صياغة تعاقد جديد يضع مصلحة المواطن فوق كل اعتبار، ويقطع مع منطق الوعود الكاذبة والتدبير المرتجل.
إن مدينة مثل فاس، التي تعج بشباب يطمح للعلم والعمل، لا يمكن أن تُدار بعقلية التسويف. فالمستقبل الذي يُبنى على انتظار ثلاثين حافلة لا تأتي، وعلى تصاميم مؤجلة إلى أجل غير مسمى، هو مستقبل مرهون بالعبث. لذلك، فإن الحل لن يكون سوى بتدخل حازم يعيد الاعتبار لحق المواطن في التنقل الكريم، ويضع حداً لهذا النزيف الذي طال أمده. وإذا كان سؤال: "إلى متى ستستمر أزمة الحافلات؟" لا يجد جواباً مقنعاً في ظل الصمت واللامبالاة، فإن الجواب الحقيقي يكمن في وعي الساكنة بحقها المشروع في محاسبة المسؤولين، والمطالبة بحلول عاجلة تليق بمدينة تاريخية اسمها فاس.