Tuesday 26 August 2025
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: طال الزمان أم قصُرَ، تسييسُ الدين سيُساوي قتلَه!

 
 
أحمد الحطاب: طال الزمان أم قصُرَ، تسييسُ الدين سيُساوي قتلَه! أحمد الحطاب
السياسة، بمعناها النبيل، يمكن تلخيصُها في كل الأنشِطة وفي القرارات التي، من شأنِها، أن تنظِّمَ الحياة، بمعناها الواسع داخل المجتمعات. يعني الحياة الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية… أي الحياة اليومية والعامة للناس. وما دامت السياسة  باقِية في إطارها النبيل، فإن الأنشطة المُمارسة والقرارات المتَّخذة، من المفروض أن تنفعَ البلادَ والعبادَ. 
وبعبارة أوضح، السياسة هي أن يتولى الناس، جماعاتٍ  وفرادى، تدبيرَ شؤونِ رقعةٍ أرضية معينة. وهذه الرقعة الأرضية يمكن أن تكون بلدا بأكملِه أو جهة أو مدينة أو قرية. ولهذا، إن السياسةَ، إن مُورِست بمعناها النبيل، فإن التدبير سيعودُ، حتماً، بالنفع على الرقعة الأرضية وعلى ساكنتِها. وباختصار، السياسة، المُمارسة بمعناها النبيل، تنظِّم الحياةَ المشتركة بين الناس في رُقعة أرضية معينة. وعلى رأس هذا التنظيم، تأتي، في الماضي، الأعراف les normes، وفي الحاضر، القوانين الوضعية،  أي القوانين التي هي من صُنع الإنسان. 
ولهذا، فأول شرط تفرِضه الحياة الجماعية la vie en commun أو الاجتماعية la vie sociale، هو احترام القانون. وعدم احترام القانون، هو بمثابة خرق لنظام الحياة المُشركة. ومع مرور الوقت وتطوًّر العقل البشري والحياة داخل المجتمعات، أصبحت السياسة علما أو علوما قائمة الذات تُدرَّس في جميع جامعات العالم.
غير أن السياسة، كما هي مُمارسة اليوم، هنا وهناك، خرجت، جدرياً، عن معناها النبيل ولم تعد علماً أو علوماً لها مقوِّماتها الفكرية ayant ses bases intellectuelles وأبعادُها الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية… 
لقد أصبحت مجالاً مفتوحاً للقاصي والداني. مفتوح للمثقَّف والأمي، إن لم أقل الجاهل، مفتوح للناس من ذوي النِّيأت الحسنة وللناس من ذوي النيات السَّيِّئة. مفتوح للناس المستقِيمين والفاسدين، مفتوح للنزهاء والماكرين والمنافقين والكذابين والمُخادعين والمزورين… أي مفتوح لكل مَن هبَّ ودبَّ، دون مراعاة القيم الإنسانية والأخلاقية، علماً أن السياسة، بمعناها النبيل، لن تُفلِحَ إلا في ظل هذه القيم الأخيرة. 
أنا، شخصيا، أستغرب، بصفة عامة، من الناس، ومن بعض الأحزاب السياسية ذات المرجعبة الإسلامية، الذين يريدون إقحامَ الدين الذي هو نقاءٌ وصفاءٌ وموعِظة واستقامة، في السياسة التي أصبحت تجمع، في نفس المشهد السياسي، بين الصالح والطالح والحق والباطل والطيب والخبيث والمستقيم والمٌنحرِف والمُصلح والفاسد… وباختصار، كل ما قد يُصلحه الدين، فالسياسة، كما هي مُمارسةٌ، اليوم، هنا وهناك، تُفسده.
ألم بقل، سبحانه وتعالى.، في الآية رقم 90 من سورة النحل : "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ". 
في هذه الآية، كلام الله مُوجَّه للناس جميعا، أي للعباد. كل ما جاء في هذه الآية الكريمة من عدل وإحسان والابتعاد عن الفحشاء والمنكر، يتناقض مع السياسة، كما هي مُمارسةٌ، اليوم، هنا وهناك. ويقول، عزَّ وجلَّ، في أخيرِ جزءٍ من نفس الآية : "...يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"، أي ينصحكم من أجل تذكُّرِ ما أمر به.
العدل هو التَّصرُّف بإنصاف، أي إعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه، بينما السياسة، كما هي مُمارسة اليوم، كلها ظُلمٌ واضطهاد وجَور. أما الإحسان، فلا يجب إدراكَه، فقط وحصرياً، ب"التَّصدُّق"، أي بالعطاء للمساكين والفقراء. بل يجب إدراكُه، بحُسن الخُلُق والسيرة  والتَّصرفات والمعاملات والعمل، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ" (السجدة،  7).. 
في هذه الآية الكريمة، "...كُلَّ شَيْءٍ…" تعني الأشياء كلها، مادية كانت أو معنوية. وفعل "أَحْسَنَ" لا يجب حصرُ معناه في إتقان المظهر الخارجي للأشياء المادية، الحية وغير الحية. بل يجب، كذلك، توسيع المعنى ليشملَ التَّناسق والتناغم مغ الموجودات (الأشياء) الأخرى التي توجد في نفس المكان. 
أما إحسان/تحسين الأشياء المعنوية، فإنه مجسَّد في هبة العقل الذي منحه اللهٌ، سبحانه  وتعالى، للكائن الحي البشري ليُميز بواسطته، بين ما هو حق وما هو باطل، وما هو طيب وما هو خبيث وما هو عدل وما هو ظُلمٌ… والعقل من الأشياء التي خلقها الله، سبحانه وتعالى، وأحسن خلقَها إذ من خلال  قدرة التفكير la capacité de raisonner يتمكَّن العقل من التَّمييز بين الخير والشر pour faire la distinction entre le bien et le mal. 
ما يُستنتَج مما سبق، هو أن الدينَ جاء ليساعدَ الناس على العيش الجماعي داخل المجتمعات. أو بعبارة أخرى، الدين جاء ليبثَّ في نفوس الناس كل القيم الإنسانية/الأخلاقية التي تجعلهم مُتساكنين ومُتعايشين في مجتمعات في أمنٍ وأمان. أما السياسة، كما هي ممارسة هنا وهناك، فكلُّها وسخٌ. والمقصود ب"وسخ" ليس هو "وسخ الدنيا" الذي هو المال. المقصود هو "سوء الأخلاق". فلماذا تريد الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية إقحامَ الدين في السياسة، علماً أنهما مُتناقِضان؟
مما لاشك فيه أن الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية لا يزال عندها حنين  للماضي حيث كان العالم الإسلامي، بعد وفاة الرسول، محمد (ص)، يخضع لنظام الحكم المُسمى "الخِلافة". وهذا النظام كان يستمد أحكامَه أو قوانينَه من النصوص الدينية، القرآن والسنة بالأساس.. لكن العالم تطوَّر فكريا، علمياً، اجتماعيا، ثقافياً، تكنولوجياً، اقتصادياً، جيوسياسياً، جيواستراتيجياً… وبالتالي لم يعد نظام الحكم، الخِلافة، الذي انتهى سنةَ 1924، مُلائماً للبلدان الإسلامية التي لا يمكن، على الإطلاق، أن تعزلَ نفسَها عن باقي بلدان العالم.
ثم يجب أن لا ننسى أن العمل بدين الإسلام، أمرٌ عمودي واختياري، أي تدور أطوارُه بين خالقٍ الذي هو الله ومخلوقٍ الذي هو الإنسان. والله لا يُجبِر الناسَ ليكونوا مسلمين أو ليختاروا دينا آخر. بل الله خلق الإنسانَ حرا،  والأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية تريد أن تستغلَّه، باسم الدين،  ليكون أداةً تُحرِّكها كما تريد ومتى تشاء. بل إن الأحزاب السياسية، ذات المرجعية الإسلامية تجعلَ من الدين أمرا جماعياً، تستعمله، بالأخص، في الحملات الانتخابية لتمهيد الطريق نحو كراسي السلطة. 
وفي الختام، إن كانت الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية تُظهِر نفسَها للناس كمُدافعٍ عن الدين، فما تُضمِرُه في نواياها، هو استعمال الدين، كمَطِية comme un  tremplin للوصول إلى كراسي السلطة. والأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية، باستِعمالِها للدين كمطيةٍ للوصول إلى كراسي السلطة، هي نفسُها، كغيرها من الأحزاب السياسية، تساهم في إفساد السياسة، ومن خلالِها. تساهم في إفساد المشهد السياسي. 
وفي نهاية المطاف، إذا استمرَّ الحالُ على على ما هو عليه، أي استِعمال الدين كمطية وليس كمُصلحٍ اجتماعي et non comme un réformateur social، فلا فرق بين الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية والأحزاب السياسية الأخرى، ما دامت هذه الأخيرة لا يهمُّها، من وجودِها في المشهد السياسي، إلا الوصول إلى كراسي السلطة. ولهذا قلتُ، في عنوان هذه المقالة، "طال الزمان أم قصُرَ، تسييسُ الدين سيُساوي قتلَه".