Saturday 23 August 2025
كتاب الرأي

الطريق الثالث لأنتوني غيدنز من موقع الحاشية السفلى.. نحو فهم الطريق الرابع

الطريق الثالث لأنتوني غيدنز من موقع الحاشية السفلى.. نحو فهم الطريق الرابع المصطفى المريزق
بادئ ذي بدء
أثناء تحضيري لدبلوم الدراسات المعمقة بجامعة باريس 8 خلال الموسم الجامعي 2000-2001، كان من بين الأساتذة الذين أثروا في تكويني الراحل Daniel Lindenberg، الذي قدّم لنا مشروع "الطريق الثالث" كما طوّره أنطوني غيدنز. ومنذ تلك المرحلة، ظل سؤال ملحّ يرافقني:
هل يصلح الطريق الثالث لفهم الواقع المغربي وتمثيل فئاته المهمشة؟

هذا السؤال لم يغادرني، بل تعمّق أكثر مع تجربتي في حركة قادمون وقادرون – مغرب المستقبل، التي أتاحت لي الاقتراب ميدانيًا من الحاشية السفلى في أكثر من 54 منطقة من مغرب الهامش. ومن خلال هذا الانخراط، تحوّلت الحركة إلى مشروع ثقافي وفكري، ومحاولة جماعية لجمع الديناميات التي أطلقناها منذ عودتي من فرنسا سنة 2008.

أضع هذا النص في سياقه، ليكون بمثابة محاولة أولى لتقريب الأصدقاء والمتابعين من الخلفية الفكرية التي أطّرت هذا المسار، ومن التحوّل المفاهيمي الذي شكّلته تجربة الطريق الرابع، في مواجهة محدودية الطريق الثالث.

مقدمة
يتناول هذا النص محاولة لقراءة نقدية للطريق الثالث كما صاغه أنطوني غيدنز، وذلك من منظور مغاير ينطلق من موقع الحاشية السفلى في السياق المغربي. ومن خلال استحضار تجربة "الطريق الرابع"، نقف على الفارق الجوهري في منطق التمثيل بين المشروعين، في ضوء أدوات تحليلية تسمح بفهم محدودية الإصلاح من الداخل، وإمكانات التحول من الهامش.

الطريق الثالث: إصلاح من داخل الدولة المركزية
اقترح عالم الاجتماع البريطاني أنتوني غيدنز في أواخر التسعينيات مفهوم "الطريق الثالث" كخيار وسط بين الاشتراكية التقليدية والنيوليبرالية المتطرفة. هذا النموذج يهدف إلى دمج العدالة الاجتماعية مع منطق السوق، من خلال دور دولة فعالة تُشجع النمو الاقتصادي، وتوفر الحماية الاجتماعية دون تقويض المبادرة الفردية.

غير أن هذا التصور، رغم لغته التوفيقية، يظل حبيس أفق الدولة المركزية والنخب السياسية. فهو لا يُغيّر في منطق التمثيل القائم، بل يعيد إنتاجه بواجهة ناعمة. الفئات المهمشة، في هذا السياق، لا تُعتبر فاعلًا مستقلًا، بل موضوعًا لسياسات الإدماج التي تُصاغ من أعلى، ويُفترض أن تستجيب لها من موقع المتلقي.

الطريق الرابع: فعل سياسي من القاعدة
في المقابل، تأتي رؤيتنا بتصور مغاير من خلال مشروعنا "الطريق الرابع"، الذي ينبع من التجربة المغربية، وتحديدًا من موقع "الحاشية السفلى". لا يُنظر إلى هذه الفئات بوصفها هامشًا ينتظر الاعتراف، بل كقوة اجتماعية تحمل معرفة ومطالب وحقًّا في التمثيل المباشر.

الطريق الرابع يقطع مع مركزية النخبة السياسية، ويؤسس لبديل يقوم على الترافع من الأسفل، والتنظيم الذاتي، والمشاركة الفعلية في تدبير الشأن العام. إنه تصور لا يُحاول إصلاح السياسات من داخل نفس البنية، بل يسعى إلى إعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس جديدة، أفقية وشاملة.

الهيمنة الرمزية كأداة للتحليل
لفهم التباين بين النموذجين، يمكن استحضار تحليل بيير بورديو لمفهوم "الهيمنة الرمزية"، لا من موقع الاصطفاف، بل كأداة لفهم كيف تُنتج النخب خطابًا يُقصي الآخر باسم تمثيله. فالطريق الثالث، بمقولاته الإصلاحية، قد يتحول إلى وسيلة لإعادة إنتاج نفس منطق السيطرة، من خلال احتكار الحق في الحديث باسم الفئات الضعيفة، دون تمكينها من التعبير عن نفسها.

في حين أن الطريق الرابع لا يدّعي النطق باسم الحاشية، بل يُمهّد لانتقالها من خانة الموضوع إلى موقع الفاعل، بما يقتضيه ذلك من تفكيك لخطاب الوصاية، وإعادة بناء الشرعية التمثيلية من القاعدة.

اختلاف في منطق التمثيل
الاختلاف الجوهري بين المشروعين لا يكمن فقط في السياسات المقترحة، بل في منطق التمثيل ذاته: الطريق الثالث يُعيد ترتيب التوازن بين السوق والدولة، لكن من داخل نفس الهرم الاجتماعي؛ أما الطريق الرابع، فهو مشروع تحويلي ينطلق من الهامش ليُعيد تشكيل مركز الفعل السياسي.

وعليه، لا يُمثّل الطريق الرابع مجرد تعديل محلي على نموذج عالمي، بل يُؤسس لبديل جذري يعيد طرح سؤال: من يحق له أن يُمثّل من؟ وكيف يُصبح المهمّش فاعلًا سياسيًا لا مجرد حالة اجتماعية؟ هذه الأسئلة تظل مفتوحة، لكنها اليوم تجد صدى متزايدًا في ديناميات الواقع المغربي.

الخاتمة
بين الطريق الثالث والطريق الرابع، يظهر بوضوح اختلاف في منطق التفكير في الفئات الهامشية. لا يتعلق الأمر بتقديم حلول تقنية أو تعديلات مؤسساتية، بل بإعادة تعريف من هو الفاعل السياسي، ومن يملك حق الكلام. ومن موقع الحاشية السفلى، تُصبح السياسة ممارسة تحرر لا تمثيلًا فقط.
 
أنطوني غيدنز