Thursday 17 July 2025
كتاب الرأي

عبد الحي السملالي: من آيت بوكماز إلى نظرية سمير أمين: اليسار المغربي يعيد اختراع نفسه من الأطراف

عبد الحي السملالي: من آيت بوكماز إلى نظرية سمير أمين: اليسار المغربي يعيد اختراع نفسه من الأطراف عبد الحي السملالي
منذ انشقاق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عن حزب الاستقلال سنة 1959، بدأ تشكّل اليسار المغربي كقوة احتجاجية تُسائل المخزن وتُطالب بعدالة اجتماعية مُمأسسة. تمركز هذا اليسار في المدن الكبرى، حيث انتعش الخطاب السياسي داخل النقابات، الجامعات، وبعض منابر الصحافة الحزبية، وارتبط بحركات التحديث التربوي والثقافي، التي جعلت من المدينة فضاءً رمزيًا للتأطير والعمل الجماعي.
 
لكن في الستينات والسبعينات، تمدّد هذا الخطاب — بصمتٍ — إلى البوادي عبر قنوات عضوية: معلمون، تعاونيات، أطر صحية، ومثقفون محليون شكّلوا نواة لـ”يسار معيشي” لا يؤطره الحزب بل تؤطره الكرامة اليومية. فالمطالبة لم تكن شعاراتية، بل تجسدت في مقاومة الحگرة، استعادة الأرض، وتنظيم التعاونيات، مما جعل البادية سندًا للمركز دون أن تُمنح الاعتراف الرمزي كحقل سياسي مستقل.
 
وفي العقود التالية، ضعف التأطير، تراجعت القناة التربوية، وغابت البادية عن الرادار الحزبي، لكنها لم تغب عن المجال الرمزي. فالحس اليساري انتقل من التنظيم إلى الممارسة، ومن البيان إلى الفعل، كما يظهر في تجارب محلية مثل مسيرات آيت بوكماز.
 
آيت بوكماز: الأطلس يُعيد تعريف العلاقة مع الدولة
في مايو 2023، خرج سكان آيت بوكماز في مسيرة سلمية رمزية تطالب بالكرامة لا بالولاء، تندّد بغياب الخدمات دون تأطير حزبي، بل بحس جماعي قروي يُعيد إنتاج المعنى. وفي يوليوز 2025، نُظّمت “مسيرة الكرامة الجبلية”، حيث سارت ساكنة أكثر من 27 دوارًا نحو مقر الولاية، رافعين شعارات مثل: “آيت بوكماز مواطنون لا متسولون”.
هذه المسيرات لا تُقرأ فقط كمطلب اجتماعي، بل كفعل رمزي يعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع من الأطراف. لا عبر صناديق الاقتراع، بل عبر المشي الميداني الذي يُستعيد فيه الفضاء العام كحقل للمعنى. في هذا الصدد، تُجسّد آيت بوكماز بداية يسار رمزي جديد لا يُبنى في المركز، بل يُولد في الهامش كفعل يومي ومبادرة جماعية.
 
نظرية سمير أمين: هل تعود من بوادي الأطلس؟
تُعيد هذه المسيرات طرح سؤال سمير أمين:
هل يمكن للأطراف أن تعيد إنتاج مركز رمزي يُزعزع منطق التراكم غير المتكافئ؟
نظرية التبعية والتمركز المشوّه التي صاغها أمين لا تزال صالحة لقراءة المشهد المغربي، خاصة في ظل النموذج النيوليبرالي الذي يستهلك المجال، ويُفرغ الرموز من دلالتها، ويُهمّش الأطراف بوصفها فضاءات غير منتجة سياسيًا.
لكن تجربة آيت بوكماز تُبيّن أن البادية قادرة على إنتاج فعل رمزي يُطالب بالحق، ويستعيد المعنى من قلب التهميش، بل يُراكم تجربة جماعية تُعيد توطين السياسة في المجال، وتمنحها شرعية من التجربة لا من النصوص.
 
المواطنة العضوية: الأفق البديل لليسار المغربي
في ظل هذا السياق، يُقترح مفهوم المواطنة العضوية بوصفه أفقًا جديدًا لإعادة بناء اليسار المغربي. ليست المواطنة هنا حالة قانونية، بل ممارسة تأويلية أخلاقية تُنتج الجماعة، وتستعيد الفضاء العام، وتُواجه التراكم الاقتصادي بمنطق الكرامة المجتمعية. إنها مواطنة تصغي للهامش، تدمج الفعل بالرمز، وتُعيد بناء السياسة كمجال للمعنى لا كآلة انتخابية.
وإذا كان اليسار قد بدأ من المدينة، فربما يُكتب له أن يُولد من جديد في الأطراف، حيث الصوت أكثر صدقًا، والمطالبة أكثر تجذرًا، والرمز أكثر حضورًا.
وفي ذلك، تكون آيت بوكماز ليست فقط نقطة مقاومة، بل بداية سردية سياسية أخرى، تُسائل المركز، وتُعيد ترتيب العلاقة بين السلطة والمعنى من الأسفل إلى الأعلى.