Sunday 15 June 2025
خارج الحدود

لحسن العسبي: معركتنا المغربية ليست مع طهران ولا ضدها..

لحسن العسبي: معركتنا المغربية ليست مع طهران ولا ضدها.. لحسن العسبي ومشهد للهجوم على إسرائيل

هل المواجهة المسلحة بين تل أبيب وطهران حلقة معزولة ضمن تاريخ المواجهات بين الجانبين منذ سنوات؟ من الوهم الاعتقاد بذلك..
 

بل هي لحظة عنيفة أشد ضمن صيرورة لإعادة ترتيب "بلاد الشرق" (كمفهوم سياسي ضمن الرؤية الجيوستراتيجية الغربية منذ أكثر من 150 سنة يمتد من طنجة حتى كابول)، بالشكل الذي يعزز من دور قوى إقليمية على حساب قوى إقليمية أخرى.
هذا يفرض قراءة "هادئة" في لحظة "توتر عالية" بحساب ممكنات الواقع الذي لا يرتفع، الذي يَبُزُّ الجميع..

 

إن ما يحدث ليس سوى محطة متقدمة من مشروع غربي بقيادة أمريكية (غير أوراسي) وبأداة إسرائيلية، يتجه رأسا صوب إيران كرأس حربة لتيار سياسي ديني ولد منذ السبعينات، تكاد غايته تحقيق ما تم إنجازه مع "منظومات قومية" مماثلة للمشروع الإيراني في منتصف القرن 20 مجسدة في اليابان وألمانيا.
 

علينا أن لا ننسى أن اليابان وألمانيا منذ 1945، صارتا كقوى إقليمية (مسنودة بنسيج مجتمعي صاعد وعنصر بشري مؤطر) محميات أمريكية. نعم محميات أمريكية. أي ذات واشنطن التي دمرت برلين كليا مع حلفاءها الإنجليز، ومحت مدنا بكاملها من الوجود في اليابان (هيروشيما وناكازاكي) باستعمال القنبلة الذرية لأول ولآخر مرة (حتى الآن) في تاريخ البشرية، هي التي تحمي البلدين منذ 80 سنة.
 

صارت ألمانيا واليابان من حينها محميات أمريكية أمنيا وعسكريا، لكن مع إدماج كلي ضمن منظومة السوق العالمية عبر بوابة الرأسمال الأمريكي (الدولار)، حقق لشعوبها تنمية اقتصادية واجتماعية وعلمية راسخة..
 

علينا ألا ننسى أن طوكيو وبون (برلين اليوم) من حينها غير مسموح لها بتطوير شئ واحد هو صناعتها العسكرية غير الدفاعية.. بكل ما صاحب ذلك من تغيير المنظومة السياسية الحزبية بالبلدين بالشكل الذي رسخ فيهما الخيار الديمقراطي عبر الآلية الإنتخابية، الذي أفرز نخبا سياسية جديدة اجتماعيا بهما. على القدر نفسه الذي أفرز فيهما نخبا اقتصادية ومالية وعلمية وصناعية جديدة متوائمة مع حاجات السوق العالمية بهويتها الليبرالية الحرة..
 

إن ما يصاغ مع إيران (كقوة مجتمعية ذات عمق حضاري ورسوخ لمنظومة الدولة) منذ سنوات يكاد يشبه بحسابات القرن 21، ما تم غربيا مع اليابان وألمانيا.. إيران التي يقول عنها واحد من كبار علماء السوسيولوجيا الإيرانيين المهاجر منذ سنوات للتدريس بالجامعات الأمريكية "يرفند إبراهيمان" أنها:

 

"دخلت القرن 20 بمحراث خشبي وتريد أن تخرج منه بقنبلة نووية".
إن تفاوض الرئيس الأمريكي ترامب منذ شهرين مع طهران (في مسقط وجنيف) بمكر السياسة وأدواتها، الذي تطور إلى التفاوض تحت سقف قنابل طائرات إف 16 وإف 35 الأمريكية الصنع وبمساعدة أقمارها الإصطناعية، يقدم الدليل على ذلك.

 

نعم، واشنطن تريد طهران وتحتاجها. لأنها تدرك أن الأمر يتعلق بمجتمع ذي عمق حضاري له تراكم حقيقي في معنى الدولة، ضمن حسابات أوسع لإعادة ترتيب "بلاد الشرق". وأن ما يتم اليوم عبر الأداة الإسرائيلية (أليس لهذا السبب وجدت أصلا منذ 1948)، ليس سوى محطة متقدمة أكثر ضمن صيرورة منطلقة منذ ما بعد الأزمة المالية والنفطية لسنة 2008. الأزمة التي سرعت من بروز الصين ماليا وتجاريا وغيرت من استراتيجية بوتين الأوراسية.. صيرورة ظلت فيها العلاقة مع إيران أمريكيا وغربيا متراوحة بين الحصار الإقتصادي والتجاري وبين التفاوض للإتفاق حول ملفها النووي (اتفاق لوزان السويسرية سنة 2015 على عهد الرئيس الأمريكي باراك حسين أوباما). مع توازي التدافع والشغب المسلح معها ضمن مجالها الإقليمي الذي نجحت فيه القيادة السياسية والأمنية الإيرانية أن تخلق لها أذرعا للمواجهة نيابة عنها في العراق وسورية ولبنان واليمن (مثلما عملت على بداية خلق أذرع لها بشمال إفريقيا عبر البوابة الجزائرية من خلال جماعة البوليزاريو)، خلال العشرين سنة الماضية..
 

إن التطور المسجل اليوم هو أن تل أبيب (كأداة تنفيذ حيوية واستراتيجية لواشنطن بالمنطقة)، قد نجحت بمسافات في أن تقلم من أدوات النفوذ الإيراني إقليميا بالمشرق، بتكامل (وهذا مما قد لا يقبله البعض ضمن هذا التحليل) مع دور تركي أردوغاني ماكر وذكي بمنطق مصالح الدولة. حيث تكفلت تل أبيب بتقليم أظافر إيران في لبنان وغزة وغدا قريب في صنعاء الحوثية، بينما اشتغلت أنقرة (أحيانا حتى بالتنسيق مع تل أبيب) في سورية وشمال العراق. كانت نتيجته نكوص إقليمي لإيران غير مسبوق، تماما مثلما يتم قص أجنحة طير لمنعه من الطيران قبل التوجه رأسا إليه لذبحه (إسقاط نظام الملا) أو إدخاله إلى القفص (قبول النظام التفاوض بشروط جديدة)..
 

إن الحرب وسيلة من وسائل السياسة لكنها ليست الأداة الوحيدة للحل (حتى ولو كانت قنبلة ذرية أو رأسا نوويا)، بل التفاوض هو المدخل له، وهو ما يقوم به ترامب مع إيران ضمن حساب استراتيجي أمريكي أكبر بالمنطقة وآسيا والمحيط الهادئ.
 

إن قوة إيران كامنة في رأسمالها البشري المتعلم، ذي التجربة الراسخة في مجالات المال والأعمال والتجارة والصناعة (خاصة البترولية والعسكرية) منذ عهد الشاه وليس اليوم فقط. وهذا الرأسمال هو الذي يهم صاحب القرار الأمريكي ضمن حساباته الإستراتيجية بالمنطقة. وأن الرهان يكاد يشبه الرهان الذي كان ولا يزال على تجارب مجتمعية سابقة ضمن مجالاتها الجغرافية من قيمة اليابان وألمانيا (كلاهما ليس قوة عسكرية، بل قوة اقتصادية). ومن الأدلة على ذلك أن التفاوض منذ سنوات مع طهران التي استنزف فعليا نظامها، ليس ضد توفرها على صناعة نووية بل ضد توفرها على صناعة عسكرية نووية، والرئيس الأمريكي ترامب يعلن ذلك بوضوح.
 

أي باب تبقى أمام الدول العربية المشرقية في هذه الجهنم المصالحية المتشابكة؟ وأي أفق لمنطقتنا المغاربية؟ وأي خيار أمام مصالحنا القومية المغربية العليا كدولة وأمة؟
إنها الأسئلة التي تقلق جديا.

 

منطق التحليل الملموس للواقع الملموس يكاد يصرخ فينا بأن السعودية أمام امتحان جدي كبير يلزمها ببلورة أجوبة جديدة (ربما خطة ولي عهدها الأمير محمد بن سلمان الإصلاحية بعض من عناوينه باحتشام حتى الآن). أن مصر تواجه تحدي مدى قدرة نخبها على بلورة جواب للتجاوز يكاد يعيد ترتيب موقع بلدهم الهام جدا بروح زمن محمد علي باشا (بالمعنى التاريخي)، وهل هي قادرة على ذلك وممتلكة لأدوات تنفيذه. بينما في مجالنا المغاربي الطريق واضحة (ووحيدة) هي تجاوز السلطة الحاكمة بالجزائر لعقدها التاريخية (والهوياتية) وأن تتجرأ للإنخراط في رسم خرائط الأمل في المستقبل بمنطق المصالح الحيوية للدول مع المغرب. غير ذلك ستكون الفاتورة ثقيلة على الجميع لأنها تؤخر فقط مجددا ما يجب أن يكون تعاونيا بمنطقتنا على قدر ما هو هدر آخر عبثي للزمن والإمكانيات والطاقات.
 

مغربيا، حماية بيضتنا الجماعية كدولة وأمة يفرض علينا واجب توسيع حذقة رؤيتنا للأمور كنخب (في الدولة والمجتمع)، الذي سيجعلنا ندرك أن هوامش التحرك ضيقة جدا علينا أمام المنغلق المغاربي والإستبداد في العناد الأعمى الجزائري، وأمام المخاطر التي تتهدد وحدتنا الترابية، بالتوازي مع واجب إجراء تحليل لحقيقة مناعتنا الذاتية. لأنه علينا أن ندرك أخيرا أن لا سبيل لنا سوى تقوية بيتنا الداخلي تدبيريا (فلكل داء دواء)، بالتوازي مع مواصلة بناء استراتيجيتنا الوطنية في علاقتنا مع العالم بما تفرضه فاتورة مصالحنا القومية العليا في الأول وفي الأخير، اقتصاديا وأمنيا وتكنولوجيا وثقافيا وحضاريا (هوياتيا).

 

علينا أن نعترف أيضا بصدق أمام ذواتنا أننا لا نحسن استثمار إيجابياتنا وتوسيعها وحمايتها (وهي كائنة وحقيقية)، حين لا نمارس الصرامة الحيوية ضد كل مداخل الفساد المكبلة في آلتنا الإدارية بمختلف أذرعها الحيوية (تعليم، صحة، عدالة، تدبير المجال). وأساسا أن ننتبه إلى مخاطر القصف الذي تتعرض له هويتنا ثقافيا وإعلاميا، التي تضرب في الصميم مناعة جسدنا المجتمعي. إن معركتنا الكبرى اليوم وغدا هي في تمنيع الفرد المغربي (صناعة الإنسان) ضمن مشروع مجتمعي للتحديث قيميا وسلوكيا.

 

على القدر نفسه الذي حيوي أن نعزز أسباب الأمل في بلدنا، وأسباب الثقة بين الدولة والمجتمع. تلك الثقة وذلك الأمل اللذان اكتسبا مساحات هامة زمن امتحان مواجهة جائحة كوفيد وزمن مواجهة تداعيات محنة زلزال الحوز وزمن ملحمة كأس العالم لكرة القدم بقطر، التي للأسف كما لو أن هناك محاولات لقصفها بتواتر مثير منذ أشهر..
تلك حرب أخرى أشد من حروب الشرق وحساباته (حرب الثقة والأمل). بل تلك حربنا الحقيقية الكبرى.