يفضل المسؤول المثقل بصرخات الضحايا أن يتحرر من ثقل التأنيب، ويهرب إلى سهولة ما في السهل الممتنع من خفة: اتهام الضحايا بأنهم كانوا... ضحايا أنفسهم.
ذلك كان اختيار السيد محمد حصاد، بالرغم من كل ما عرف عنه من قوة التربية الوطنية وأخلاق الإدارة.
صعب فعلا أن تقنع القتيل بأنه راح ضحية نفسه، وقد فاجأته الموت تحت الماء.. صعب أن تقنع الأهل المأهولين بالحداد، بأنهم لم يصوبوا ابنهم أو ابنتهم جيدا نحو الموت، كالموت فوق سرير في مستشفى، أو الموت، بعد تأمين طويل العمر على المرض.
صعب أن نقول للقتيل، ولم تجف بعد دموع أهله: كان عليك أن تموت بطريقة أخرى حتى نجد الجواب أمام البرلمان، كان عليك أن تموت بلا أخطاء منا... أو تكتب وصية نقرأها أمام النواب المغرضين والصحافة اللامسؤولة الممولة بطرق مشبوهة، والقابلة دوما للاشتعال حربا لإثارة غضبنا!
صعب أن ندفعه إلى جحيم المياه ثم نتبعه بالطلقات السياسية، من برلمان كاتم للصوت.
ربما كان فشل الحكومة وعجزها يجد أمثل تعبير له في ما قاله حصاد وهو يرمي بالموت على القتيل، ووجد هذا الفشل الحكومي، أحسن ما يمكن في الدفاع عن حسن نية الجهاز التنفيذي في دموع وزير الاتصال، ثم بالأساس جرأته في الذهاب إلى حيث الأحياء كانوا يشتعلون احتراقا، بدون ترتيبات أولية من الحزن الرسمي، أما الآخرون فيبدو أن لديهم انشغالات كثيرة في الوطن!!
يشهد الله أني لست من الذين ينتظرون الفاجعة لشحن الخطاب بالرأفة وحشو البنادق بدموع الأهالي..
ويشهد الله أنني لا أريد للحكومة أن تسأل،.. فقط عليها أن تبكي كما يبكي الناس على أهلهم وأن تبدي، خارج الوعيد المبهم، قليلا من العناية العاطفية بمن مات.
أما الناس فهم أدرى وأكثر حدادا من كل نواب الأمة..
لعل من قانون الحداد البسيط أن يترك الموتى إلى عذاب الندم، إلى أن تعترف الدولة بأن قناطرها المقنطرة أبعد من أن تكون رافعة للحياة أو ممرا للإيحاء.. قبل الموتى والمفقودين..
لنضع الصورة كاملة أمام الوزير: نهر جارف، ومياه قاتلة، وطريق عار وسط السيول، وسائق يغامر بحياة الذين معه ويعبر.. إلى حتفه وحتفهم جميعا.
هل السائق مسؤول:
ما من شك؟
هل هو المسؤول الوحيد:
أبدا. إذ لا يمكن أن نهاجم سائقا طائشا ونعفي الدولة من غياب القنطرة؟..
لقد انهارت قناطر لم يمر على تدشينها إلا شهور قليلة، وصمدت قناطر بناها يوسف بن تاشفين، فهل يمكن أن نعلل موت الناس في مغرب القناطر المنهارة في الوقت الذي لم «يمنحنا» المسؤولون في عهد يوسف بن تاشفين سببا واحدا لكي نسجل محضرا بعد موتهم بقرون؟
ولا يمكن أن نحرر محضرا بمتابعة سائق ميت، في الوقت الذي ينجو الوزير المسؤول عن التجهيز والمسؤولون المحليون والأجهزة الإقليمية والجهوية، بفتوى بعدية لأصعب وزير لدينا!!
إن منطقا مثل هذا يعفي الوزارات كلها من المسؤولية كلما مات أزيد من 4 مغاربة (العدد المطلوب في التجمعات المرخص بها)، يبدو لي أن الموتى سيتابعون في هذه النازلة، أخلاقيا وجنائيا بأنهم أقاموا لأنفسهم جنازة غير مرخص لها!!
لأن الدرك، على حد قول الوزير لم يسمح لهم بالمرور: وهذا يسمى اقتحام نقطة تفتيش وعصيان القانون.
لنا الكثير من الحالات البشعة التي نتحمل فيها نحن المسؤولية الجماعية الأكثر ألما:
الآباء الذين يشرفون على دعارة أبنائهم في بيت السياح الجنسيين،
والعائلات التي تكتري أبناءها وبناتها للعبودية المقنعة في البيوت المغربية..
ولا أحد يجرؤ على أن يبيض صفحة من يفعل ذلك، ولكن لا يعفي ذلك المسؤولين، من الأمنيين والمجتمعيين والإعلاميين، عندما يسكتون على وجود الثغرات أو.. الثقوب في هذا الجسد أو ذاك.
لكن هل سيستمع الحقوقيون الذين حجوا بالآلاف إلى المغرب، اعترافا منهم بثقافة حقوق الإنسان، ومن صميمها ثقافة المسؤولية وعدم الإفلات من العقاب إلى حجج السيد وزير الداخلية وهم مقتنعون؟
هل يمكن أن تكفكف العائلات دموعها بمجرد أن ينهي الوزير تنبيهه إلى عدم «الاستغلال السياسوي للموت وتصفية الحسابات»، ثم يبتسمون ممتنين له لأنه اكتشف السبب الحقيقي لمأساتهم: أي الانتحار اللامسؤول لأهلهم؟
يعتقد الخطاب الرسمي للوزارة أن الطريقة الأفضل للتخفيف من درجة الألم هي أن نسلم بأن الذين توفوا ماتوا عمدا، وأن نقلهم في شاحنات الأزبال طريقة أخرى للتخفيف من الألم.. كما لو أن السيناريو الممكن لهذه الفاجعة هو التالي: إذا كان الموتى يموتون بانتحار جماعي، بلا مسؤولية واضحة ولتأزيم الحكومة فقط، فإن النتيجة المنطقية هي أنهم سيموتون وينقلون بدون وجود الحكومة التي تنتقم منهم بإهانتهم بعد الموت.
لم نعد نستغرب حقا، لا.