من المعلوم أن العقوق يكون من لدن "الأولاد" باتجاه "الوالدين"، وهذا هو الذي نص القرآن الحكيم على رفضه وتجريمه والأمر باجتنابه، خاصةً وأن الأمر يتعلق بالمولودين والوالدين الذين أنجبوهم، أي الطرفان اللذان تربط بينهما علاقة بيولوجية، لقوله تعالى في سورة البلد: "ووالد وما ولد"... ولذلك لم يتطرق التنزيل الحكيم إلى عقوق الأبوين، لأنه غير مُصَنَّف في نفس الدرجة من التجريم، ومن الخطورة!!
هذا مجرد تذكير ضمني بأن النص الديني، بمعنى النص المنزّل، يُميّز ويفرّق بين الوالدين والأبوين، فالأولان هما اللذان انجبا الولد، والثانيان هما اللذان ربيا ونشّآ الإبن، وهاتان الحالتان كانتا بمثابة الخبز اليومي في المجتمع الإسلامي الأول، الذي كانت الحروب والمعارك في عهوده على أشدها، وكانت تنتج اليتامى بمئات الإلاف... وما زالت للأسف الشديد على ذي الحال!!
كل هذا فهمناه واستوعبناه لسهولته ويُسره، والسؤال الآن والذي أزمعُ على التصدي له في هذا المقال، الساخر كالعادة لأنه يتعلق ب"الدار اللي هناك"، مع الاعتذار للأستاذ عبد الوهاب الدكالي صاحب أغنية رائعة بهذا العنوان، أما أنا فأقصد "الجار اللي هناك"، والذي صار من المستحيل، على شخصي المتواضع، أن أتطرق إليه ولو على سبيل الإخبار فحسب، دون أن أُحاذر حتى لا أستلقي على قفاي من الضحك سخريةً لا شماتةً!!
الموضوع، بكل بساطة، يتعلق بالجزائر ووالدتها فرنسا، أو بالأحرى، بعقوق الإبنة البيولوجية الجزائر المدمنة على الشغب والتمرد والعدوانية تجاه كل مَن يُخاطبُها أو تُخاطبُه، بلا استثناء، لأنها فاقدة لاستقرارها النفسي/العقلي والوجداني، وغير مُتحكِّمة في مشاعرها، يا سلام على المشاعر عندما تنشأ بين الدول والأنظمة، وهذه بدورها معادلة مستحيلة (!!!)
ويتعلق بتحصيل الحاصل بالوالدة فرنسا (ولا أقول الأم فحسب) لأن فرنسا هي التي أنجبت وربّت وعلّمت ثم كبّرت وموّنت وسلّحت بكل أشكل المكر السياسي والدبلوماسي السّيِّئ، لتجد نفسها في نهاية المطاف وهي تُعامَل بالسوء نفسه، والمكر نفسه، بل وإلى درجة تلقّيها تهديدات واضحة وصريحة من الإبنة العاقّ بتعريضها، أي تعريض الوالدة، للتخريب والتدمير بأيدي أبناء الحركي، والحراكة، وحتى موظفيها في السفارة والقنصليات، ولماذا كل هذه "الزّيطة"؟ لأن فرنسا انحازت، مُضطرةً لا بَطَلة، إلى الجانب المغربي ومشروعه الحضاري للحكم الذاتي!!
العجيب، أن فرنسا هذه المرة لم تستطع المرور على العقوق الجزائري مَرّ الكرام كعادتها في كل مرة، بل اضطرت هذه الكرّة إلى البدء في الثأر لكرامتها المُداسة، وسمعتها الممرَّغة في تراب العَتَه والسَّفَه الجزائريَيْن، ومن ثَمّ بدأنا والعالم من حولنا نشاهد الوالدة الغاضبة وهي تمارس بشكل عملي وملموس أفعال الثأر في أوضح تجلياته، ولكنها هذه المرة من القسوة والضراوة ما جعلتنا جميعا والعالم من حولنا نفغر أفواهنا من فرط الدهشة، ولكنها بكل صراحة دهشةٌ لا تخلو من إعجاب والمتعة!!
بدأ العقاب في مستهلّه بإعلان رئيس الجمهورية الفرنسية عزمه الأكيد على الدفاع عن الموقف والمشروع المغربيَيْن في كل المحافل الأوروبية، والدولية، وفي طليعتها محفل مجلس الأمن الدولي؛ ثم جاء بعد ذلك مباشرةً إطلاق غول الداخلية الفرنسي، أقصد الوزير الفرنسي في الداخلية، الذي لم يترك أي تعبير سياسي ودبلوماسي قدحي إلاّ واستعمله في وصف عقوق الجزائر وحكامها المَخابيل، حتى أنه هدد باستعمال كل الأسلحة المتاحة، السياسية والاقتصادية والثقافية... وحتى الأمنية والمخابراتية والعسكرية إذا تطلّب الأمر، ثم بعد ذلك جاء الدور على كبار المسؤولين الجزائريين وأغلبهم من جنرالات الموراديا، فضربتهم الوالدة الغاضبة والحانقة على الأيدي والأذرع التي توجعهم بشدة، ألاَ وهي أموالهم المودعة في الأبناك والمَصارف الفرنسية، وعقاراتهم الشبيهة بالأشباح، والمركونة بأسماء ومِلكيات تمويهية، فأعلن الجانب الفرنسي منع المسؤولين المعنيين في أول الأمر من الدخول إلى التراب الفرنسي الذي كانوا يستبيحونه بكل دلالات الكلمة، وتم إيقاف منح التأشيرات لهؤلاء ولأبنائهم وأسرهم، ثم أُعلِن مؤخرا عن مرمجة تجميد عدد لا يُستهان به من الأرصدة المالية الخيالية والفلكية التي هرّبها المسؤولون المعنيون إلى فرنسا، بعد سرقتها من مُقدّرات شعب جزائري مسطول، أغرقوه حتى النخاع في كذبة العدو الخارجي، المغربي على الخصوص، وفي هذا التجميد كما نعلم جميعاً، أكبر ضربة يمكن أن يتلقاها جنرالات شائخون لم يبق لهم من شَتات العُمر سوى ما سلف ذكرُه من الملايير المسروقة!!
قد يقول قائل إن الأمر يتعلق، فقط لا غير، بتشنجات الرئيس إيمانويل ماكرون، ووزير داخليته، وإنه سينجلي عن عودة العلاقات بين الابنة ووالدتها إلى سابق عهدها بمجرد مغادرة ماكرون لمنصة الرئاسة، ومعه بالتالي حكومتُه، ولكن هذا القول مردودٌ عليه، لأن فرنسا في الزمن الراهن والذي سيليه تغرق يوما بعد يوم في أيديولوجيا اليمين، وقد بلغ سيل اليمين إلى أذنيها بمختلف أطيافه بما فيها المتطرف... وما المسرحية الهزلية و"البايخة" التي تعرضت لها ماري لوبين، من محاكمة مفبركة، وإقامة محروسة، ومراقبة بالسوار الإلكتروني المثبت في أعلى أحد قدميها، إلاّ محاولة ذكية وغبية ويائسة في آن واحد، لامتصاص غضب وخوف الجمهوريين المعتدلين القدامى وفلول الإشتراكيين، المتردّين شيئا فشيئا إلى أسفل سافلين، وذلك لن ينفع المتفائلين في جزائر الشذوذ العقلي والفكري في شيء، لأن الدولة العميقة في فرنسا لن تخرج من دائرة الزحف اليميني الذي عم أوروبا برمتها، وما حدث من انقلاب جذري بهذا الاتجاه داخل برلمان الاتحاد الأوروبي يُغني عن مزيد إطناب في هذا المنحى!!
المهم، والأهم في آن واحد، أن العقوق الجزائري آن أوان اجتثاثه من جذوره، وبالتالي فالانهيار النهائي والقطعي للنظام العسكري في تلك الجارة الشمطاء المعتوهة لم يعد سوى مسألة وقت... والأيام بيننا!!!
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي متقاعد.
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي متقاعد.