لا يمكن لأحد أن ينكر التحولات العميقة التي تشهدها العلاقات الدولية حاليا في بعديها السياسي والعسكري، و التي بدأت تشهد تحالفاتها التقليدية التي عمرت لعقود طغت عليها الصراعات الايديولوجية بين نموذجين اقتصادين متناقضين رأسمالي في الغرب، و اشتراكي في الشرق.
نتج عنه أحلاف عسكرية وسياسية متصارعة لكن دون أن تصل إلى مستوى الدخول في حروب مباشرة نظرا لامتلاك كلا الطرفين أسلحة الردع الاستراتيجي.
مما أدخل العالم في مرحلة من الصراعات الخفية سميت بالحرب الباردة التي طغى عليها استعمال الغرب الرأسمالي للسلاح الاقتصادي والتجاري ضد خصمهم الإيديولوجي.
هذا في الوقت الذي كان فيه هذا الأخير لا يتمتع بنفس الامتيازت الاقتصادية والتجارية.
ففي الوقت الذي كان فيه الغرب الرأسمالي يتمتع بقدرات كبيرة على خلق تراكمات رأسمالية مهمة سواء على مستوى الداخلي بفتح المجال للمبادرات الفردية الحرة و والاستقلال المكثف للقوة العاملة .
أو على المستوى الخارجي بنهب ثروات شعوب دول عالم الجنوب التي كانت أو لا تزال خاضعة للاستعمار الغربي والتي شكلت في نفس الآن أسواقا تجارية مهمة للمنتجات الغربية . او من خلال جلب رؤوس الأموال الأجنبية، وهو ما تنبه له السوفييت عندما نقلوا الصراع مع الغرب الرأسمالي إلى المستعمرات التابعة له عبر دعم و تشجيع حركات التحرر والتي كانت الغاية منها إضافة الى نيل هذه الدول استقلالها لكن في نفس الآن تجفيف موارد الغرب التي تأتيه منها لكن دون أن يكون ذلك كافيا لأن الغرب حافظ على التبعية الاقتصادية والسياسية لهذه الدول حتى بعد استقلال أغلبها في الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
هذا في حين كان المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي ممركزا في نموذجه الاقتصادي حول الدولة.و ملغيا للمبادرات الفردية والحريات التي تذكي المنافسة والإنتاجية مما نتج عنه حالة من التراخي الاجتماعي و بيروقراطية مركزية قاتلة، إضافة إلى إجبار من طرف الغرب للدخول في سباق تسلح من أجل الحفاظ على توازن الردع الاستراتيجي وهو ما زاد من أعبائه الاقتصادية والاجتماعية.
كل هذه العناصر الاقتصادية والسياسية إضافة الى مسألة الحريات التي وظفها الغرب الرأسمالي في صراعه مع الشرق الاشتراكي أدت في النهاية إلى انهيار جدار برلين وانهيار كل المنظومة الاشتراكية المنظوية تحت مظلة الاتحاد السوفيتي . و فتحت المجال لهيمنة النظام الرأسمالي على العالم والدخول في مرحلة جديدة سميت بـ الأحادية القطبية بزعامة أمريكا امتدت لأكثر من أربعين سنة، كانت فيها هذه الاخيرة الأمر الناهي.لكن وخلال العشرية الأخيرة بدأت تظهر ملامح تحولات جديدة في موازين القوى الدولية بعد أن احتوت كل من روسيا والصين الصدمة وتحولتا إلى اقتصاد السوق الذي أبدعتا فيه إضافة إلى انبعاث أمم أخرى أصبح لها وزنها في ميزان القوة الاقتصادية العالمية كالهند والبرازيل الخ… بل وعملت هذه القوى على تشكيل تحالفات و مجموعات اقتصادية جديدة قارية ودولية موازية على شاكلة مجموعة دول أسيان ومنظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة البريكس، لفتح أفاق جديدة للشراكات الاقتصادية والتجارية بعد ان عمدت أمريكا الى اللجوء على نظام العقوبات من أجل كبح جماح التطور لدى هذه الدول، إضافة إلى تطوير قدراتهم في مجال أسلحة الردع الاستراتيجي وهو ما خلق توازنا دوليا جديدا من الناحية العسكرية و خاصة من الناحية الاقتصادية والتجارية .وهو ما لم يكن متوفرا إبان الحرب الباردة حيث كان الغرب بزعامة أمريكا متفوقا بكثير في هذا المجال لاعتبارات سبق ذكرها.
إن هذه التحولات في موازين القوى الدولية في الشق العسكري الذي اصبح فيه الردع الاستراتيجي متوازنا بين كل من أمريكا من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى، إضافة إلى انتفاء الصراعات على أسس ايديولجية بين نموذجين رأسمالي في الغرب و اشتراكي في الشرق بعد أن تحول هذا الأخير الى الاقتصاد اللبيرالي والتجارة الحرة، كل هذا دفع بالإدارة الامريكية الراهنة المتعطشة الى استرجاع دورها الريادي إلى لعب ورقة الرسوم الجمركية ضدا على القوانين المؤطرة لمنظة التجارة العالمية التي أرست أسسها الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1995 لترسيم ما سمي بالعولمة الاقتصادية ، وذلك من أجل إحداث حالة إرباك في الاقتصاد العالمي ودفع دول العالم دون استثناء الى استجلاء عطفها دون تمييز بين الحلفاء التقليديين وخصوم الأمس ولو بتفاوتات مختلفة في نسبة الرسوم.
إن هذا السلوك الجديد الغير التمييزي لأمريكا مع دول العالم الذي يعد في نفس الآن بمثابة حرب تجارية على جميع الدول بما فيها أوربا . إضافة الى تبدل موقفها من الحرب في أوكرانيا الذي بدا متقربا أكثر الى روسيا بعد أن تبين عدم قدرة الغرب على إلحاق هزيمة استراتيجية بالدولة الروسية، و اعتزامها تقليص نفقاتها في حلف الناتو بل والتهديد بالانسحاب منه إذا لم ترفع الدول الأوربية نسبة مساهماتها الدفاعية، كل هذا يحيل على أن أمريكا أدركت التحولات العميقة التي تشهدها موازين القوة الدولية ولم يعد هناك مكان لاستعمال القوة الصلبة مع القوى العالمية الجديدة نظرا للمخاطر التي قد تترتب عنها رغم التلويح باستعمالها. هذا مع الإبقاء عليها في التعامل مع باقي دول الجنوب و في الشرق الأوسط. بالتالي فإن الإدارة الأمريكية الحالية بالتجاءها إلى استعمال الحرب التجارية والاقتصادية مع العالم بصفة عامة، والصين بصفة أخص تكون قد التجأت الى أسلوب انتصرت فيه إبان مرحلة الحرب الباردة والثنائية القطبية مع الاتحاد السوفيتي.
علما أن السياقات التاريخية ليست نفسها، و ليس هناك ضمانات لتحقيق انتصار في هذه الحرب التي لم تعد فيه أمريكا القوة الصناعية الأولى في العالم بعد أن تجاوزتها الصين في هذا الشأن بثلاثة أضعاف .
وليست وحدها من يعتمد الاقتصاد الحر أو يتحكم في التجارة العالمية والتكنولوجيا الدقيقة وفي الإنتاج العالمي للمعادن النادرة الضرورية للصناعات المستقبلية التي تتحكم الصين في إنتاج أكثر من 62% منها و نسبتها في معالجة هذه المعادن تقدر ب 92 % على مستوى العالم، هذا بالإضافة إلى ما تملكه الصين من احتياطات بالدولار تقدر ب 3.2 تريليون دولار وتوفرها على أكبر احتياطي عالمي من الذهب كملاذ آمن. إضافة الى أوراق ضغط آخرى وأخص بالذكر دون الحصر ما تملكه الصين من سندات امريكية تتجاوز 700 مليار دولار .
إن الحرب التجارية التي بدأتها الإدارة الأمريكية ضد العالم والصين بشكل أخص لا يبدو أنها محسومة بالنسبة لأمريكا بل إن نتائجها الكارثية على الاقتصاد العالمي لن تكون أقل شأنا من خيار الحرب الكونية التي يعمل الجميع على تجنبها.
إذا كانت هذه الحرب التجارية المستهدف فيها بالدرجة الأولى هي الصين التي تصنفها وثيقة الأمن القومي الأمريكي كتهديد رئيسي لهيمنتها على العالم، فإن هذه الاخيرة تملك من أوراق الردع الاقتصادي ما يكفي لدفع أمريكا للتفاوض على أسس جديدة لتنظيم التجارة الدولية بما يخدم مصالح الطرفين ويتجلى ذلك في الندية التي تعاملت بها الصين في مسألة الرسوم الجمركية، و إعلان أمريكا عن نيتها إيجاد أرضية للتفاهم المشترك ، علما كذلك أن الصين بمقدورها إيجاد أسواق بديلة عن أمريكا لمنتوجاتها الصناعية سواء في آسيا التي ستشكل في المدى المنظور مركز الثقل العالمي الأول في مجال التجارة والصناعة، و التي تجمعها بدولها كذلك روابط اقتصادية و تجارية في إطار تجمعات اقليمية و دولية ، وكذلك في إفريقيا وأمريكا الجنوبية وأوروبا التي بدأت تبحث عن شركاء جدد بعد أن أدركت قرب نهاية التحالفات التقليدية المترتبة عن مرحلة الحرب الباردة التي بدأت مع الموقف الأمريكي من الحرب في أوكرانيا، و كذا في مسألة الأمن الأوربي الذي اعتبرته أمريكا شأنا خاصا بأوروبا، إضافة الى الرسوم التجارية الحمائية التي نهجتها هذه الاخيرة اتجاهها.
خلاصة القول ان ما نشهده من تقلبات في العلاقات الدولية التي تؤشر على نهايات الاحلاف التقليدية وبداية تشكل أخرى بديلة، و كذا ما نتحسسه من تغيرات في موازين القوى العالمية سواء في الشق المتعلق بالردع العسكري الاستراتيجي الذي اصبح أكثر توازنا، أو في امتلاك القوى الصاعدة وسائل الردع الاقتصادي التي تجعل من نشوب اي حرب عالمية في هذا المجال كارثة على الاقتصاد العالمي .وهو ما يؤدي بنا بالضرورة إلى القول أن ما بدأته روسيا في حربها ضد الناتو في أوكرانيا و ما أشعله ترامب من حرب تجارية عالمية لإركاع الجميع وبالأخص الصين وذلك في مهمة مستحيلة لاستعادة هيمنة أمريكا على العالم، وردة فعل هذه الأخيرة عليها هي كلها مؤشرات دالة على بداية انبعاث نظام عالمي جديد قائم على مبدأ التعددية القطبية خاصة بعد أن دخل العالم مرحلة ثنائية الردع الاستراتيجي في شقيه العسكري والاقتصادي وهو ما لم يكن متوفرا في مرحلة الحرب الباردة.
بالتالي فإن السلاح الاقتصادي والتجاري الذي أسقطت به أمريكا الاتحاد السوفيتي في وقت سابق ، وفي إطار السياقات السياسية والاقتصادية والتجارية الحالية هو نفسه السلاح الذي سيزيح أمريكا عن تبوء صدارة العالم. ويجبرها على الجلوس حول طاولة المفاوضات لوضع أسس نظام عالمي جديد، كل هذا يحيل إذن على أن سنة 2025 ستكون سنة مفصلية في تاريخ العلاقات الدولية..
