الأربعاء 2 إبريل 2025
مجتمع

"الخليل أحمد ابريه".. الرجل الذي كشف المستور فابتلعه المجهول

"الخليل أحمد ابريه".. الرجل الذي كشف المستور فابتلعه المجهول الخليل أحمد ابريه
في دهاليز السياسة حيث تُدار الملفات الحساسة في الظل، ويكون الصمت أحيانًا أكثر أمانًا من الحقيقة، خرج الرجل عن المألوف، رافضًا أن يكون جزءًا من معادلة الصمت، وقرر أن يحفر في الماضي، أن يرفع الغطاء عن حقائق أراد كثيرون أن تُمحى من الذاكرة. عاش الخليل أحمد ابريه في الظل، لكنه كان يعرف كل شيء، وحين قرر أن يُضيء ذلك الظلام، كان الثمن أن يُختطف ويُخفى قسرًا، ليصبح هو نفسه لغزًا غارقًا في المجهول. هل كان إصرار الخليل أحمد ابريه على كشف حقيقة المختفين هو ما دفعه للصدام مع قوى الظلام التي تخشى أن يُكشف المستور؟ وكيف أصبح مصيره المجهول هو الثمن الذي دفعه مقابل سعيه لكشف الحقيقة التي حاولوا دفنها للأبد؟
 
كان يعرف أكثر مما ينبغي...
لم يكن الخليل أحمد ابريه مجرد مسؤول في جبهة البوليساريو، بل كان أحد العقول المدبرة لأجهزتها الأمنية لسنوات، الرجل الذي كان واحدًا من مؤسسي جهاز مخابراتها وكان مدير أمنها وشغل منصب مدير ديوان الرئاسة ومستشارها الحقوقي. وكان على دراية عميقة بتقاريرها الأكثر سرية. وبفضل اطلاعه الواسع، اختار مواجهة الماضي وفتح ملفات الانتهاكات التي ظنّ الكثيرون أنها طويت إلى الأبد.

 في مخيمات تندوف، حيث عاش اللاجئون لعقود في ظل قيادة قمعية، كان الصمت هو القاعدة، والخوف حاجزًا أمام الحقيقة. لكن الخليل أحمد ابريه لم يكن كغيره من المسؤولين، فمن موقعه القيادي رفض التواطؤ مع الصمت، لم يساوم على الحقيقة، لم يغض الطرف عن الانتهاكات. بدأ في فتح ملفات الماضي، كشف عن 160 حالة اختفاء بين عامي 1980 و1990، شملت أطفالًا ونساء، وفقًا لما ورد في تقرير وكالة أوروبا بريس بتاريخ 18 مارس 2019.
 
 وحين كان مديرًا للأمن ثم رئيسًا لديوان الرئاسة، مرّت أمامه تقارير أمنية خطيرة، ووثائق تُدين كبار المسؤولين في البوليساريو، لكنه لم يتركها تذهب أدراج الرياح. وعندما أصبح مسؤولًا عن حقوق الإنسان، قرر أن لا يكون مجرد واجهة شكلية، بل أن يفعل شيئًا حقيقيًا. وهنا بدأ الخطر.. بدأ العد التنازلي لاختفائه.
 
الخوف من الحقيقة.. قاتل
يقال إن الخوف قد يدفع الإنسان إلى أفعال جنونية، والخليل أحمد ابريه أرعبهم.. أرعبهم لأنه لم يكن مجرد معارض، بل كان واحدًا منهم، يعرفهم فردًا فردًا، ماضيهم، جرائمهم، وحتى خلافاتهم الداخلية. كان يعلم من أصدر الأوامر ومن نفّذ، من تستّر ومن تواطأ. كان يعلم كيف يُدار القمع، وكيف تُصنع الأكاذيب وتلفق الاتهامات، وكيف تُطمس الجرائم، كان يمتلك الحجة والدليل والبرهان، وكان اسمه يثير القلق داخل قيادة البوليساريو ودوائر القرار في الجزائر.

 
 وحين شرع في كشف الستار عن الحقائق، تزايدت الأعين التي تراقبه. أدركت القيادة أن وجوده بات يشكل خطرًا، فلم يعد رجلًا يسهل احتواؤه أو كسب وده. أصبح جليًا أنه لم يعد يحتفظ بالسر بدافع الولاء، بل كالتزام أخلاقي يسعى من خلاله الى كشف الحقيقة. عندها، بدأ التخطيط لإبعاده يجري بصمت خلف الكواليس. وهكذا، في يوم لم يكن كسائر الأيام، السادس من يناير 2009، اختفى الخليل كما لو أن الأرض انشقت وابتلعته.
 
رحل دون أثر.. ورُسمت الأكاذيب
 منذ لحظة اختفائه، بدأت الروايات المتضاربة، والكذب، والمماطلة، والإنكار.
•    في البداية، قيل إنه جاسوس مزدوج يعمل لصالح دول معادية للجزائر، وأنه محكوم عليه بالمؤبد من قبل المحكمة العسكرية الجزائرية ويقضي عقوبته في سجن البليدة.
•    مع تزايد الضغوط الدولية، سارعت السلطات الجزائرية إلى نفي احتجازه أو محاكمته، مؤكدة بشكل قاطع أنه غير موجود في أي من سجونها.
•    ورغم ذلك، استمرت آلة التضليل في بث روايات جديدة أكثر سخافة، تفتقر إلى أي دليل أو وقائع موثوقة. هذه الروايات بدت وكأنها تهدف إلى تشويه الحقائق وإخفاء الواقع، بعيدة كل البعد عن المنطق.
•    ثم أصبح الصمت هو السياسة الرسمية، كأن الرجل لم يكن موجودًا من الأساس.
 
حتى ملفه داخل دوائر البوليساريو الأمنية كان خاليًا تمامًا من أي معلومات، باستثناء طلب وحيد تقدّمت به عائلته لزيارته. ولم يكن هناك أي اعتراف رسمي، أي تفسير، فقط تعتيم كامل. وكأنهم كانوا يريدون مسح اسمه من الوجود.
 
 وبعد اختفائه، تحركت الآلة القمعية لمسح أي أثر له. تم حذف أرشيفه الإعلامي، وصودر كتاب كان بصدد نشره، أُتلفت وثائقه، بل سعوا حتى إلى محو ذكراه من عقول الناس..
ولكن كيف يُنسى رجل مثل الخليل أحمد؟ كيف يُمحى من ذاكرة من عرفوه؟ كيف يُقتل اسمه وهو الذي حمل قضايا المختفين؟

لماذا لم يُكشف مصيره؟
 
كل الأبواب مشرعة بين الجزائر والبوليساريو، واللقاءات السياسية لا تنقطع، والاتصالات قائمة لا تتوقف.. فكيف يمكن لقضية الخليل أحمد ابريه أن تبقى غارقة في دوامة الغموض؟ لماذا لا يصدر أي تصريح رسمي يكشف عن مصيره؟ لماذا تصرّ القيادة على تجاهل كل النداءات الحقوقية المطالبة بالحقيقة؟ والأهم.. لماذا لم يُطرح السؤال الأصعب؟
"أين هو الخليل أحمد ابريه؟"

 
لأن الإجابة مرعبة..
لأن مصيره ليس مجرد ملف حقوقي، بل جريمة دولة، جريمة مخططة ومُنفذة بعناية، شاركت فيها أطراف متعددة، ولا يريد أحد أن يُكشف الستار عنها.
لأنه لو تكلم الخليل أحمد ابريه اليوم، ستنهار جدران كثيرة، ستفتح ملفات طُويت، وستُحاكم أسماء لطالما ظنت أنها فوق القانون.
لكن مهما طال الصمت، هناك حقيقة واحدة لا يمكن إنكارها: الخليل أحمد ابريه كان يبحث عن المختفين، فأصبح واحدًا منهم.