في ظل التحولات العالمية المتسارعة والتحديات الجيوسياسية الجديدة، تبرز الجالية المغربية المقيمة بالخارج كفاعل استراتيجي لا غنى عنه في المسار التنموي للمملكة المغربية، وفي ترسيخ إشعاعها الدولي. هذا التوجه لم يعد مجرد خطاب رمزي، بل أصبح توجهًا مؤسساتيًا واضحًا، تجسد من خلال التوجيهات الملكية في خطابي 20 غشت 2022 و6 نونبر 2024، وكذا من خلال الدينامية التي تقودها مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج، برئاسة الأميرة للا مريم.
لقد شكّل الخطاب الملكي مناسبة لتقييم شامل لواقع الجالية المغربية، مسلطًا الضوء على الفجوة بين الارتباط القوي لمغاربة الخارج بوطنهم، وبين ضعف الأطر القانونية والمؤسساتية التي من المفروض أن تسهّل انخراطهم ومساهمتهم الفعالة في بناء الوطن. ومن هنا جاءت الدعوة إلى إعادة النظر في المنظومة التشريعية، تبسيط الإجراءات الإدارية، وتوفير بيئة حاضنة للاستثمار ونقل المعرفة.
في هذا الإطار، جاء الإعلان عن إحداث "المؤسسة المحمدية للمغاربة المقيمين بالخارج" كلبنة مؤسساتية جديدة، تهدف إلى تجاوز التشتت السابق في تدبير قضايا الجالية، عبر تجميع الصلاحيات والمهام ضمن جهاز واحد يتمتع بفعالية تنفيذية. من أولويات هذه المؤسسة رقمنة المساطر الإدارية، تسهيل الخدمات القنصلية، وتنسيق السياسات العمومية الموجهة للجالية.
كما تم الإعلان عن آلية وطنية لتعبئة الكفاءات المغربية بالخارج، وهي مبادرة نوعية ترمي إلى تشجيع هجرة الكفاءات المعكوسة، واستثمار الطاقات المغربية المنتشرة في قطاعات واعدة كالصناعة المتقدمة، الرقمنة، الطاقات المتجددة، والذكاء الاصطناعي. وهو ما يعكس وعياً استراتيجياً بأهمية الرأسمال البشري كقاطرة حقيقية للتنمية المستدامة.
في السياق نفسه، تضطلع مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج بدور محوري أساسه ترسيخ الهوية الوطنية لدى الأجيال الناشئة في المهجر، من خلال برامج تعليمية وثقافية تستهدف الحفاظ على اللغة العربية، تقوية الانتماء، وتنمية الفخر بالثقافة والتراث المغربي. كما تُعنى المؤسسة بدعم المرأة المغربية بالخارج، ومرافقة الأسر في مواجهة التحديات الاجتماعية والقانونية.
ويبرز دور عمر عزيمان، الذي يشكل محركًا أساسياً في تنزيل الرؤية الملكية داخل المؤسسة، من خلال تطوير مبادرات عملية، وتفعيل الشراكات مع الفاعلين العموميين والخواص، وإحداث قنوات تواصل مع الجالية قائمة على القرب، الثقة، والنجاعة.
غير أن التحدي الأكبر يظل في الترجمة الفعلية لهذه الرؤية الطموحة إلى سياسات ناجعة على الأرض، بما يضمن تفكيك البيروقراطية الإدارية، تعزيز التنسيق بين المؤسسات، وضمان الشفافية والحكامة في تتبع المشاريع والمبادرات الموجهة للجالية.
إن المغرب اليوم، وهو يعيد صياغة علاقته بمواطنيه خارج حدوده، إنما يؤسس لنموذج مواطنة شاملة تتجاوز الجغرافيا، وتكرس مبدأ المشاركة الفعالة في التنمية من أي مكان في العالم. إن مغاربة الخارج ليسوا فقط سفراء ثقافة وهوية، بل هم شركاء في القرار، الفعل، والبناء، ورافعة حقيقية لتموقع المغرب في عالم متعدد الأقطاب والمعايير.