الأربعاء 27 نوفمبر 2024
في الصميم

أريري: مفتاح المغرب الرئيسي لضمان أمنه القومي

أريري: مفتاح المغرب الرئيسي لضمان أمنه القومي عبد الرحيم أريري
بعيد الاستقلال اختار العقل العام للمغرب شق طريق نحو التصنيع رغبة في تحصين البلاد وتأمين حاجياتها وتقليص تبعيتها للخارج. واعتمد المغرب في أجرأة هذه السياسة العمومية على إعطاء الأولوية لإنتاج الآلات والمعدات الفلاحية وغيرها (آلات الحصاد - جرارات - شاحنات النقل، بل وحتى الطوبيسات…إلخ).

لكن التوتر الذي حدث بين أطراف الحقل السياسي عقب الأزمة السياسية بين أحزاب الحركة الوطنية والقصر، وما تلا ذلك من إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، قاد المغرب إلى تغيير سياسته العمومية من الاعتماد على التصنيع إلى إعطاء الأولوية للفلاحة والسياحة.

رهن سياسة المغرب العمومية حول هاتين الركيزتين، لم يكن اعتباطا بقدر ما كان السياق السياسي هو المتحكم في الاختيار. إذ لأسباب أمنية أرادت الدولة تجفيف منابت الحركة العمالية والاحتجاجية بالنظر إلى أن التصنيع يقود إلى إكثار سواد الطبقة العاملة، وبالتالي تعزيز سطوة العمل النقابي. وهذا ما كان يقلق الدولة في البدايات الأولى للاستقلال، فقررت التخلص من تبعات ذلك حتى لا يخلق لها مشاكل في المستقبل، خاصة وأن عملية تطهير الإدارة المغربية من كل رموز الحركة الوطنية وجيش التحرير كانت قد انطلقت بإبعاد هؤلاء من مناصب المسؤولية (عمال، قواد، باشوات، مدراء مركزيون…إلخ).

ورغم الثقل الديمغرافي الكبير الذي كانت تمثله البادية بالمغرب آنذاك، فإن اختيار الدولة الاعتماد على الوسط القروي والفلاحة لم يكن يشكل تهديدا لها عكس المدينة.

ومن تبعات تخلي المغرب عن التصنيع أن السلطات همشت الأذرع المؤسساتية التي خلقت في مطلع الاستقلال لمواكبة سياسة التصنيع. ونقصد بالدرجة الأولى البنك الوطني للانماء الاقتصادي (BNDE) المكلف بتمويل المشاريع الصناعية، وأيضا مكتب التنمية الصناعية (BDI) الذي كان بمثابة مكتب دراسات بيد الأجهزة العمومية لمساعدتها في اختيار المشاريع الصناعية. إذ لما كان المستثمر يقدم مشروعا ذا مردودية يجد أمامه البنك الوطني لتمويله.

لكن بعد أن هجرت الدولة هذا الخيار، ركزت كل ثقلها على الفلاحة ووضع المغرب نفسه رهينة بيد السوق الدولية (الغربية بالأساس). ومما شجعه على ذلك أن إسبانيا واليونان والبرتغال (وهي دول تملك نفس مقومات المغرب التنافسية) كانت آنذاك تحت حكم العسكر، ولم تنضم بعد للسوق الأوربية المشتركة. مما خلق فرصا لميلاد «همزة مالية مهمة» لفائدة لوبيات مغربية. أما الفلاحة العادية، فتم إهمالها من طرف الحكومات وترك الفلاح الصغير يواجه مصيره لوحده بدون تأطير وبدون مواكبة وبدون تمويل، اللهم إذا حدث جفاف، حينها تتدخل السلطة العمومية ببعض الفتات لذر الرماد في العيون.

ارتماء المغرب في السوق الدولية، جعله يتحول من بلد مصدر للمزروعات إلى بلد مصدر للماء، على اعتبار أن أهم ما يصدره المغرب لأوربا هي الحوامض والبواكر، وهي سلع تستهلك الماء بكثرة وتستنزف الفرشة المائية بشكل رهيب.

وبسبب هذه الاختيارات، بدأت الحكومات المتعاقبة تسمن وتدعم فلاحين كبارا مختصين في التصدير، وبعد أن تحققت الوفرة نسبيا في المنتوج وبرزت صعوبات في تسويقه، بادرت الدولة إلى خلق مكتب التسويق والتصدير (OCE) ليساعد هؤلاء الفلاحين الكبار في بيع منتوجاتهم. ولما تقوى هؤلاء الفلاحون واشتد عود شركاتهم، لجأت السلطات إلى حل مكتب التسويق والتصدير في ما بعد.

موازاة مع ذلك كانت هناك مؤسستان جامعيتان مهمتان يفترض فيهما مواكبة القطاع الفلاحي لتأهيله وتحسين طرق الاشتغال فيه وهما: 

- المعهد الوطني للبحث الزراعي
- معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة

لكن للأسف لم يلعبا الدور المنوط بهما كما يجب. فمعهد الأبحاث الزراعية لم يحصل على الميزانيات اللازمة للقيام بأبحاث حول التربة ونوع المزروعات الصالحة للمغرب أو ذات المردودية الأكثر بدون أن تستهلك الماء حسب كل حوض جغرافي. ومعهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة، المفروض أن تتخرج منه الأطر لتأطير الفلاحين، تحول خريجوه إلى موظفين سامين بالإدارات ومسؤولين بالوزارة وبالمكاتب الجهوية للاستثمار الفلاحي، فتم إنهاكهم في قضايا التقنين والبيروقراطية على حساب التأطير والتأهيل.

إن الجفاف معطى هيكلي بالمغرب وهو موضوع معروف قبل دخول الاستعمار الفرنسي لبلادنا. القيمة المضافة التي حملها الاستعمار أن البحث عن الوضع المائي بالمغرب أصبح جد متقدم، وأظهرت الدراسات أن التصحر ما فتئ يزحف. وبدل أن تستحضر السياسة العمومية بالمغرب هذا الهاجس المائي، ثم اعتماد مخطط المغرب الأخضر الذي أضاع فرصة تثمين القطاع الفلاحي، عبر إعادة إنتاج نفس السياسة التي كانت معتمدة من قبل: ألا وهي تسمين الفلاحين الكبار وإهمال الفلاحين الصغار. إذ رصدت ثلثي اعتمادات مخطط المغرب الأخضر للفلاحة الرأسمالية المكثفة على حساب الفلاحة التضامنية. ومما زاد من التبعات السلبية للمغرب الأخضر أن فاعلين دوليين وازنين أضحوا ينافسون المغرب (مثل الإسبان واليونان والبرتغال الذين أضحوا أعضاء كاملي العضوية في الاتحاد الأوربي)، فوجدت الفلاحة التصديرية المغربية نفسها في ورطة، قادت الفلاحين الكبار إلى استنزاف الفرشة المائية وإنهاك المخزون المائي بالمغرب بإدخال تقنيات جد متطورة تصل إلى عمق 120 بل و160 مترا. وبما أن المغرب رهن نفسه بيد السوق الرأسمالية الدولية، فقد وجد نفسه ملزما بالاستجابة لتلبية الطلب العالمي على منتوجات بعينها بدل أن يتم التركيز على تأمين السيادة والأمن الغذائيين للمغاربة. وبما أن منتوجات الفلاحة التضامنية (زيت أركان، التمور، اللوز، الزعفران…) أصبحت مطلوبة دوليا، بدأنا نلاحظ زحف الرأسماليين لخنق الفلاحين الصغار بالواحات والاستغلاليات العادية لشراء الأراضي ووضع اليد على أراضي الجموع وتجهيزها وتمويلها من طرف مخطط المغرب الأخضر. فوقع ضغط على هذه المجالات التي شهدت تفريغا لسكانها ولفلاحيها وهربوا نحو هوامش المدن، ليس بسبب جفاف أو جائحة، بل لأن اللوبيات ضيقوا عليهم الخناق في سلسلة الإنتاج. 

وقد أبرزت جائحة كورونا وحرب روسيا مع أوكرانيا، أن المغرب لم يحصد إلا ما زرعه من سياسات تخدم اللوبيات بدل أن تخدم الأمن القومي للبلاد، هذا الأمن الذي تعد السيادة الغذائية أهم مقوماته.