بثت قناة تامزيغت ليلة الخميس/الجمعة، برنامجا وثائقيا رفيعا تحت عنوان، "الحنجرة الذهبية: مبارك أيسار 1952 /2009"، من فكرة وإعداد الصحفي عبدالله بوشطارت. وقد توفق هذا الأخير بشكل كبير في اخراج هذا الوثائقي بمهنية عالية وبفنية قل نظيرها، ولامس اغلب جوانب حياة ومسار تألق الفنان العبقري صاحب الصوت الجميل والألحان العذبة، كما قدم بما فيه الكفاية معلومات وافرة وتحليل عميق حول التجربة الفنية والمدرسة الموسيقية التي وضع المرحوم أيسار لبناتها الأولى بإبداع متدفق واجتهاد لا ينضب، والنفس التجديدي الذي ضخه أيسار في منظومة تيرويسا.
سافر الوثائقي بالمشاهدين إلى اكتشاف والتعرف على أهم المحطات الأولى التي انطلق منها أيسار في بداية مساره وتعلمه لأبجديات الإيقاعات، بدءا من مسقط رأسه دوار تابولعوانت بالشريط الساحلي لقبيلة ايداويسار ببلاد ايحاحان إقليم الصويرة، والعتبات التي سلكها أيسار الطفل والشاب وهو يشق طريقه نحو المجد والشهرة والقمة من خلال جولات العبور التي كان يقوم بها في أسواق إيحاحان، ثم سفره إلى مراكش أول مرة في منتصف عقد الستينيات حيث اقتحم عالم الحلقة بساحة جامع الفنا محاولة منه مقارعة الروايس الكبار الذين كانوا يتخذون هذه الساحة الساحرة مرتعا للمبارزة ومدرسة للتألق وابراز الموهبة، هناك في جامع الفنا اكتشف الرايس محمد بونصير موهبة واصرار الرايس مبارك أيسار وألحّ عليه ضرورة تسجيل أول ألبوم له في مساره الفني، وانتقل إلى مدينة الدار البيضاء حيث تحقق حلم الرايس مبارك بولوج استوديو التسجيل لأل مرة بدعم من الرايس بونصير سنة 1968 .
حديث البدايات وشق المسارات تحدث عنه بدقة في الوثائقي، الرايس أحمد بوالنيت الذي كان رفيق درب الرايس مبارك منذ حياة الطفولة في الدوار إلى مراتب الشهرة والمجد الموسيقي، وأسس معه فرقته الموسيقية منذ البداية حيث كان الرايس بوالنيت عازفا على آلة لوتار والرايس مبارك عازفا على آلة الرباب وشكلاً ثنائية منسجمة كانت البناء الأساس لفرقة أيسار.
نجاح بوشطارت في إعداد وإخراج هذا الوثائقي تحقق في حسن اختياره للمحاورين الذين أدلوا بتصريحات قيمة جدا ودقيقة، وتم حبكها في بناء منهجي محكم وفق تسلسل دقيق في القضايا المثارة والانتقال من موضوع إلى آخر بمرونة وسلاسة دون المساس بالتصور العام الذي يسير فيه الوثائقي، فكانت إفادات ومعلومات الرايس محمد بنعلي العازف الماهر على آلة الرباب والذي التحق بفرقة مبارك أيسار منذ سنة 1976 وبقي معه إلى أن توفي سنة 2009, وتجمعه مع الرايس مبارك قرابة عائلية، فقد كانت تدخلاته موفقة جدا في ضبط مسار المرحوم ايسار لما تكتنزه ذاكرته الفياضة من معلومات ومخزون فني حول تجربة الفنان مبارك ايسار ومدرسته الفنية حيث عاشها بن علي وساهم فيها بشكل كبير. كما تعززت بنية الوثائقي بشهادات وتحليلات علمية دقيقة حول بحور وأوزان الشعر الأمازيغي المغنى لاسيما تجربة مبارك أيسار، حيث قدم الدكتور الطيب أمكرود معلومات دقيقة تنشر لأول مرة على قناة إعلامية حول الأوزان والألحان التي ينفرد بها أيسار، إضافة إلى شهادات قيمة من الفنان والباحث الحسن ادحمو والفنان الباحث المتخصص في الصناعة الثقافية والباحث في فنون الروايس الفنان علي فايق، كما كانت إفادات الفنان المقيم في أمريكا والمهتم بتجديد موسيقي الروايس فتاح عبو، قيمة ودقيقة في تشريح تجربة الفنان ايسار، وايضاً مداخلات الإعلامي الألمعي المتخصص في فنون تيرويسا الذي كان جادل واستجوب كبار الروايس الرواد محمد ولكاش، كما انفتح الوثائقي على الباحثين الشباب الذين درسوا وانجزوا بحوثا جامعية لتحليل وجمع أشعار ايسار مثل الباحث محمد ابيضار، كما شارك فنانون اخرون في هذا الوثائقي من جوانب مختلفة مثل الفاعل والنقابي الموسيقي محمد الخطابي.
مجمل القول، يعد وثائقي الحنجرة الذهبية عملا مميزا وناجحا استحسنه جل الفنانين والمتابعين والمهتمين المتابعين للفن الأمازيغي وكذا عموم المشاهدين الذين عبر بعضهم على مواقفهم واستحسانهم في تعليقات وتدوينات كثيرة على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي.
وتجدر الإشارة إلى أن الصحفي عبدالله بوشطارت له تجربة إعلامية كبيرة داخل قناة تامزيغت، وسبق له ان انجز برنامجا وثائقيا ناجحا حول تجربة الفنان والرايس محمد ألبنسير تحت عنوان "النبوغ الخالد".