الخميس 14 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: المهمة الأساسية والحتمية للمنظومة التربوية هي يناءُ الإنسان المغربي

أحمد الحطاب: المهمة الأساسية والحتمية للمنظومة التربوية هي يناءُ الإنسان المغربي أحمد الحطاب
ما يفرضه عليَّ عنوانُ هذه المقالة، هو طرحٌ عدَّة أسئلة كان على المسؤولين عن تدبير الشأن العام أن يطرحوها على أنفسهم قبل الخوض في إعداد أيَّة سياسة تربوية أو قبل الإقبال على أيِّ إصلاحٍ للمنظومة التَّربوية. من بين هذه الأسئلة، أخصُّ بالذكر سؤالين، أعتبرهما أنا شخصياً، من الأهمية بمكان. والسؤال الأول هو: "هل تساءل المسؤولون عن تدبير الشأن العام عن المهمة الأساسية للأساتذة العاملين في جميع مراحل التَّعليم، من الابتدائي إلى العالي، ومروراً بالثانوي الإعدادي والثاموي التَّأهيلي؟
 
جواباً على هذا السؤال الأول، أقول إن المهمة الأساسية للأساتذة، بغضِّ النظر عن المستوى الذي يعملون فيه، هي المساهمة، بفعالية، في بناء الإنسان المغربي. وبناء الإنسان لا يتوقَّف عند مرحلة من مراحل التَّعليم. بل إنه مستمر من المهد إلى اللحد. وعندما أقول "بناء الإنسان المغربي"، فالأمر يتعلَّق، أولاً وقبل كل شيءٍ، بالمساهمة في بناء شخصية هذا الإنسان المغربي الذي هو المتعلِّم، تلميذاً كان أو طالباً. 

وشخصية المتعلِّمِ لا تُبْنى بشحن دماغه بسَيلٍ من المعارف الجافة. وهنا أفتح قوسا لأقولَ إن المعرفةَ المدرسيةَ le savoir scolaire يجب، على الإطلاق، أن تكونَ دعامةً un support لبناء الإنسان المغربي، أي بناء شخصيتِه. ثمَّ إن شحنَ دماغ المتعلِّمِ بسيلٍ من المعارف الجافة تحثُّ هذا المتعلِّمَ على الحِفظ والاستظهار apprendre par coeur et restituer le savoir scolaire. والبلادُ ليست في حاجةٍ للحُفَّأظ. البلاد في حاجةٍ لمَن يُفكِّر ويُبدِع في التَّفكير.
 
والدليل على ذلك أن حُفَّاظَ التُّراث الفقهي الإسلامي لم يُساهموا بمعارفهم الفقهية، منذ أربعة عشر قرنا، في تنمية البلاد والعباد. بل البلادُ في حاجةٍ ماسة إلى عقولٍ نيِّرة ومستنيرة. وهذا النوع من العقول لا تُمطِره السماء. بل لا بدَّ له من تكوينٍ مدروس ومسبق. فما هو المقصود من "بناء الإنسان المغربي"؟
 
كما سبق الذِّكرّ، بناء الإنسان المغربي يمر حتما عبرَ بناءِ شخصيته. والمُلاحظ هو أني قلتُ "الإنسان" وليس الفرد أو الشخص. بل قلتُ الإنسان. والإنسانُ، لغةً واصطلاحاً، هو الكائن الحي المُفكِّر. إذن، بناء الإنسان المغربي، هو بناء كائن حي مفكِّر. فما هو، إذن، دور التعليم، بجميع مراحله، في نقل الكائن الحي المفكِّر من مستوى تفكير حسن إلى مستوى أحسن منه؟ دوره هو بناء شخصية كائن حي مفكِّرٍ.  فما هي مواصفات هذا البناء؟
 
أولا وقبل كل شيءٍ، نحن أمام متعلِّمٍ مفكر، أي له تفكير مسبق. فما على التعليم إلا أن يصقلَ تفكيرَ هذا المتعلِّم. والصَّقلُ يقتضي أن يُصبحَ المتعلِّم متفتِّحاً épanoui ومُتحرِّراً émancipé فكريا واجتماعيا. كما يقتضي الصَّقلُ أن يتعلَّم المتعلِّمُ كيف يستقل بذاته وأفكاره، ويتعلَّمَ كذلك كيف يحلُّ المشكلات، وكيف يتحصَّل على فكرٍ نقدي acquérir une pensée critique وفوق هذا وذاك، أن يتعلَّمَ كيف يتعلَّمُ ذاتياً apprendre à apprendre أو أن يتعوَّدَ على التَّعليم الذاتي autoapprentissage. على أن يُتوَّجَ البناءُ بتقوية الجانب الاجتماعي الوجداني le côté socio-affectif. الوجداني بزرعِ، في فكر المتعلِّم، روح المواطنة citoyenneté وحب الوطن patriotisme. الاجتماعي بجعل المتعلِّم واحدة من رافعات التنمية، مستقبلاً، بجميع تجلياتها، أي أن يكونَ بناءُ الشخصية مُصاحَباً بالقدرة على إنتاج اللقيمات المُضافة production de valeurs ajoutées. هذا هو البناء المطلوب والمرغوب فيه للإنسان المغربي النافع لنفسه ولبلده.
 
كفى من الببغائية psittacisme التي بُنِيَ عليها التعليمُ منذ استقلال البلاد إلى يومنا هذا. وكفى،  كذلك، في تمويل تعليم مٌخرجاتُه ses outputs ضعيفة جدا، بالمقارنة مع ما تلتهمُه المنظومة التَّربوية من أموال. كم ضاعت من الجهود بشريا، ماليا واجتماعيا.
 
أما السؤال الثاني، فهو: "هل شَعَرَ السياسيون الذين اختارهم الشعبُ، عن طريق صناديق الاقتراع، لتدبير الشأن العام، بمسؤوليةِ النهوض بالمنظومة التربوية، الملقاةِ على عاتقهم منذ ستينيات القرن الماضي"؟

لا أظن أنهم شعروا بهذه المسؤولية. لماذا؟ لأنهم لو شعروا بها منذ فجر الستينات، لكانت منظومتُنا التربوية، اليوم، في أحسن حال. ثم لا أظن أنهم شعروا بهذه المسؤولية لأن ما تقرَّر من إصلاحات لمنظومتنا التّربوية لم يُؤتِ أُكلَه رغم أن الميزانية السنوية المخصَّصة للمنظومة التَّربوية قد تبلغ أحيانا رُبعَ ميزانية الدولة المغربية. فلماذا بقيت جودةُ أداءِ منظومتنا التربوية ضعيفة، غير مُرضية ومُحبِطة؟
 
لأن الأرضية الفلسفية أو القاعدة النظرية le socle philosophique et théorique التي انطلقت منها المنظومة التربوية لأداء مهامها لم تتغيَّر، رغم ما أتت به الإصلاحات من تجديد في الأساليب التربوية والبيداغوجية وفي تكوين الأساتذة. فأين يوجد المشكل العويص والشاذ؟
 
المشكلُ كل المشكلِ يوجد فيما يجري داخلَ الأقسام. ما يجري داخل الأقسام لا يزال مرتكزا على تبليغ المعرفة وتراكمها عند المتعلِّم، وليس، على الإطلاق، بناء الإنسان المغربي وتقوية شخصيتِه. أي أن تعليمَنا لا يزال يكوِّن الببغائيين les psittacistes، أي الحُفَّاظ والمُردِّدون. لماذا مشكلُ منظومتِنا التربوية يوجد داخل الأقسام؟
 
لأن الأساتذة ينطبق عليهم المثل الذي نصُّه : "فاقِد الشيء لا يُعطيه". بمعنى أن ما يقوم به الأساتذة داخلَ الأقسام، يستجيب لما تلقوه أثناء تكوينهم الأولي formation initiale وأثناء تكوينهم المستمر formation continue. ولهذا، فتكوينُ الأساتذة الأولي يجب، حتما وأولا وقبل كل شيءٍ، أن يتمركزَ على الأساليب التربوية والبيداغوجية التي تمكِّن هؤلاء الأساتذة من المساهمة في بناء الإنسان المغربي وفي تقوية شخصيتِه. وهذا يعني أن المعارف التي، على الأساتذة أن يُبلِّغونها للمتعلِّم، أن تكونَ دعامةً un support لتكوين شخصية النتعلِّمين. وبعبارة أخرى، أن يكونَ تبليغ المعارف transmission des connaissances وسيلةً un moyen لبناء شخصية المتعلمين وليس غاية في حد  ذاتها et non une finalité pure et simple.
 
كل المنظومات التربوية الناجحة عبرَ العالم كيَّفت مهامَها مع ما تحتاجه البلدانُ في مجال التنمية البشرية والاقتصادية. في بلدنا السعيد، المنظومة التربوية منعزلة ليس فقط عن المجتمع، بل، كذلك، عن التنمية.
 
ولإلقاءِ الضوء، من جهة، على انعزال المدرسة عن المجتمع وعن التنمية، حيث المعرفة تكتسي طابعا تجريدياً محضاً un aspect purement abstrait، ومن جهة أخرى، إلقاء الضوء على انعكاسات هذا الانعزال على تكوين المتعلِّم، يكفي أن نلاحظ الفرقَ الشاسعَ بين ما يتلقونه من معرفة داخل المدرسة وما يصادفونه من وضعيات في حياتهم اليومية.
 
أمام هذه الوضعيات، غالبا ما يجد المتعلِّم نفسَه عاجزا عن رد الفعل وإن حصل هذا الرد، فالتَّردُّد tâtonnement هو الذي يقوده في أغلب الحالات. ولا داعي للقول أن الأمثلة التي تُبرهِن على عُقم المعارف المبلَّغة للمتعلِّمين عديدة ومتنوعة. هذه بعض النماذج منها:
1. في مجال الجيولوجيا، يتلقى المتعلم سيلا من المعارف عن مميزات وخاصيات بعض الصخور، التي لا يجد لها أي مبرر عندما يصادف نفس الصخور في الطبيعة. كان من الأجدر أن يتعلَّم المُتعلِّمُ ماهي استعمالات هذه الصخور في التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
 
2. في مجال البيولوجيا، يَدرُسُ المتعلم تركيبَ وشِراحة anatomie وإيكولوجيا écologie ذلك النبات أو ذلك الحيوان، لكنه بعد خروجه من المدرسة، غالبا ما نراه يخرب الأول و يعتدي على الثاني. كان من الأجدر أن يتعلَّمَ المتعلِّم ما دور النبات أو الحيوان في السِّلسِلات الغذائية les chaînes alimentaires أو في التوازنات الطبيعية les équilibrés naturels.
 
3. في مجال التاريخ، تزخر ذاكرة المتعلم بالتواريخ المتعلِّقة بالأحداث والحروب والغزوات، الخ.، لكنه لا يعرف شيئا عن تاريخ المعرفة المفاهيمي histoire conceptuelle des connaissances وعن النظريات والاكتشافات العلمية، الخ. كان من الأجدر أن يكون المتعلِّم على علمٍ بتطوُّر المفاهيم العلمية.
 
4. في مجال الفيزياء، يتلقَّى المتعلمُ الكثيرَ من المعلومات عن الظواهر الطبيعية كالحرارة والضغط والجاذبية والقوة والطاقة، الخ.، لكنه يعجز عن الجمع بين هذه الظواهر ليفسر مثلا تكوينَ السحاب أو الريح أو المطر، الخ. كان من الأجدر أن يكون المتعلِّمُ قادرا على فهم التفاعلات التي تحدث بين هذه الظواهر الطبيعية.
 
5. في مجال الكيمياء، يتمُّ تبليغُ الكثير من المعارف للمتعلم عن المادة، عن حالاتها الثلاثة، عن الأملاح sels والأحماض acides والقواعد bases والعناصر الكيميائية éléments chimiques وعن كيفية تفاعلاتها وخاصياتها، الخ.، لكنه لا يعرف أي شيء عن الصابون الذي يغسل به جسدَه وعن المعجون الذي ينظِّف به أسنانَه أو العِِطر الذي يُطيِّب به وجهَه ويديه. كان من الأجدر أن تتمحورَ دروس الكيمياء على المواد التي يصادفها في حياته اليومية وما أكثرها.
 
تعليمٌ، كما يُقال، خارجَ التغطية!