سنترك مَلياً عالم السياسة، ونترك معه مشاكسات جارتنا الشرقية، شفاها الله، ولكننا لن نبتعد عن هذين المجالين كثيراً، لأن السياسة ساكنةٌ فينا، ولأن جيراننا أشد التصاقاً بنا من كل أنواع اللصاق التي جادت بها إبداعات العلم الحديث!!
سنترك كل ذلك، الآن، وسنولّي وجوهنا شطر مصيبة من المصائب العظمى التي ابتُلينا بها ذاتياً في زمان الناس هذا، دون أن تكون لأحد غيرنا يدٌ فيما سيأتي بيانه!!
ترامت على وسائل الإعلام، بمختلف وسائطه، أصناف بشرية طفيلية تفضح طفيليتَها لغةُ الخطاب لديها، من جراء جهلها بقواعد النحو والصرف والبلاغة والبيان، ولفرط سوء استعمالها للكلمات والاصطلاحات في غير محلها بدافع جهل فظيع سواء بالموضوعات المطروقة، أو بعلاقاتها بغيرها من الموضوعات!!
والحال أن من مظاهر هذه الرداءة أن إعلاميي هذا الزمان لا يميّزون مثلاً بين "مكونات الدولة الواحدة"، فتراهم لا يفرقون بين مواقف الحكومات من جهة، وهذه مواقف رسمية؛ وبين مواقف السلطة التشريعية ممثلة بالبرلمانات بمختلف غرفها من جهة ثانية، وكذا مواقف الهيئات الجمعوية والجماهيرية التي لا تمثل إلا أعضاءَها المنضوين تحت لوائها من جهة ثالثة، ولا حتى بين هذه المؤسسات الرسمية والمدنية وبين مواقف أشخاص ذاتيين، هم مجرد أشخاص فُرادى، من المثقفين، وأساتذة الجامعات، ومن الباحثين والدارسين... ولذلك ترى وسائل الإعلام المصابة بهذا الخلط المُريع يطلعون عليك بمانشيطات كبيرة تنسب موقفا من المواقف إلى دولة من الدول، بينما صاحب الموقف أو أصحابه ليسوا إلا أفراداً متحزبين، أو أعضاء في هيئات أو جمعيات لا علاقة لها بالكيان الرسمي للدولة، ولذلك تجد الأخبار والتحاليل الإعلامية الصادرة عن مثل هذه العيّنات تتناقض مع ذاتها، ولا تفتأ تُكذّب نفسها بمجرد استقرارها في أذهان المتلقّين، ونادراً ما ينتبه المتلقّون لهذا النوع من الأخطاء القاتلة، بسبب جهلهم، هم الآخرون، بخبايا الخطأ ومصادره، أو لِثقةٍ منهم زائدةٍ عن اللزوم وضعوها في مصادر الأخبار تلك، تجعلهم مُقبلين عليها بلا تمعّن ولا تمحيص... والنتيجة؟ أمطار شديدة الغزارة من الرداءة تنقلب أحيانا إلى أعاصير هادرة تختفي حقائق الأمور في أتونها، فلا تقوم لها من جرّاء ذلك قائمةٌ إلا بافتضاح الخطأ بالصدفة، أو تعريته على يد فضوليٍّ من الفضوليين أمثال هذا العبد المتواضع الفقير إلى عفو ربه!!
هناك نموذج واقعي يسير يمكن أن نسوقه هنا على سبيل الاستئناس، ويمكن أن نستدلّ به على هذا النوع من المتدخلين والمؤثرين المحسوبين ظلماً وعدواناً على "السلطة الرابعة"، نجده فيما ينشره بعضهم من التذبذب في مواقف دولة موريتانيا من قضية وحدتنا الترابية، باصطفافها تارة معنا وتارة أخرى مع "أعدائنا الكلاسيكيين"، بينما موريتانيا/الدولة بريئة كل البراءة من تلك الاصطفافات جملة وتفصيلاً، وإنما هي خيارات لشخصيات حزبية أو ثقافية أو جمعوية لا صلة لها بالدولة، ربما حركتها أموال الأعداء ورشاويهم، ومن الطبيعي أن تكون الأعمال الإعلامية المنتمية لهذا الصنف الجاهل والمتسرّع والسطحي مضرةً بسمعة موريتانيا/الدولة، ومضرة بنفس الدرجة بمن يعتمد مثل تلك الأخبار من المتلقّين، الذين تبدأ تصدر عن بعضهم كتابات وتعاليق قادحةً تصف الجمهورية الموريتانية بكل أوصاف السوء والنفاق والخيانة... وهلمّ ظلماً وعَبَثاً!!
إنّ الغريب في هذا النوع من الأعمال الإعلامية الرديئة، أن مرتكبيه صنّفوا أنفسهم في خانة "الأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا" كما جاء في التنزيل الحكيم... فمن ينبّه عادةً هؤلاء لهذه الأخطاء الفاضحة؟.. في العادة لا أحد... ولذلك تستمر حليمة في وفائها لعاداتها القديمة!!
بالمناسبة، جاء اختياري لهذا المثال بالذات، لأن موريتانيا/الدولة تشكو فعلا من هذا الظلم الجاهلي، الذي يَنسُب إليها مواقفَ لم تَصدر عن رئيسها، ولا عن رئيس حكومتها، ولا عن وزيرها في الخارجية، أو غيرِه من أعضاء الحكومة في ذلك الجار الملتزم بنفس مواقف الحياد الإيجابي التي عبر عنها منذ احتدام النزاع المفتعل حول صحرائنا، بالرغم من استمرار حمله لاعتراف شكلي بجمهورية الفضاء الجزائرية الجنوبية، والذي لا يخرج عن كونه تحصيلَ حاصلِ مرحلةٍ عانت موريتانيا فيها دولةً وشعباً من عربدات الجزائر وصنيعتها الإرهابية!!
تريدون أمثلة أخرى على هذه الرداءة العصيّة والمُستعصية على العلاج، في غياب هيأة عليا للإعلام السمعي البصَري يبدو أنها تغطّ في سُبات شتوي لا نهاية له؟..
أنظروا إلى ما تنشره قنوات مثل "morocoo this week" التي يطلع علينا صاحبُها بأخبار ما أنزل الله بها من سلطان، بعضُها يبشّر ببدء الحرب النظامية المباشرة والمفتوحة بين المغرب والجزائر، وبعضها الآخر يزف بُشرى بداية الحرب العالمية الثالثة او الرابعة، وبعض آخر منها ينقل خبر وفاة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، أو رئيس الأركان السعيد شنقريحة، بل يدعو زوار القناة إلى تفعيل الجرس للولوج إلى هذه المعلومات إبان بثها الوشيك والفعلي... فضلاً عن ممارسات أخرى من هذا القبيل يستحق مرتكبُها أن يُعرَض على أطباء العلاج النفسي، أو بالأحرى على النيابة العامة مباشرة، بتهمة التشهير ونشر الأخبار الزائفة بغرض إثارة الفتنة!!
المصيبة الأعظم في مثل هذه الحالات التي لا يَحسُن وصفُها إلا بالمَرَضية، أن قنوات أخرى للتواصل، بل أحيانا بعض وسائل الإخبار، تأخذ عنها وتنقل كَذِبَها وبُهتانَها، دون أن يستطيع أحد تفسير هذا السلوك سوى بالجهل المدقع لقواعد العمل الإعلامي، وأخلاقياته التي لا تختلف في شيء عن أخلاقيات مِهَنٍ نبيلةٍ كالقضاء، والتربية والتعليم... وكل ذلك، في غياب تأطير سياسي يُفترض أنه دستوري، وأن الأحزاب مكلفة بقوة الدستور بتأمينه ودرء ما يترتب عن غيابه من الآفات والمساوئ... "يا حسرة على الأحزاب المغربية وعلى مهامها الدستورية"!!
نهايتُه... إن هذه الظاهرة الإعلامية المَرَضية قد أخذت من وسائل إعلامنا وتَواصُلِنا الاجتماعي كلَّ مأخذ، حتى أنها حوّلت هواتفَنا الذكية إلى وسيلةِ تعذيبٍ ذاتيٍّ مازوشِيٍّ سيجعلنا إذا لم نضع له حدّاً، الآن قبل الغد، في أمس الحاجة إلى نفس العلاجات النفسية والسلوكية التي تقتضيها الحاجة في مثل هذه الظروف... نسألُ اللهَ لأنفسنا السلامة والعافية!!!
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي.
محمد عزيز الوكيلي، إطار تربوي.