أبرز المدير العام لوكالة تنمية الأقاليم الشمالية، منير البيوسفي، في السابع من ماي 2024، أنه خلال الفترة الماضية الممتدة ما بين 2019-2023 تم تنزيل 3668 مشروعا تنمويا بكلفة إجمالية تقدر بـ 51 مليار درهم، ساهمت فيها الوكالة بـ 2,5 مليار درهم، وأن هذه المشاريع تهدف إلى تقليص الفوارق الاجتماعية، وبلورة البرامج الكبرى المهيكلة.
والسؤال هو: هل استطاعت هذه الملايير التي تم إنفاقها بسخاء أن تؤثر في الوضع الاقتصادي المعيشي للمواطنين؟ هل تحولت مناطق الشمال إلى جنة عدن بعد أن نجح القرار المركزي في جعلها منطقة تستوفي جميع الشروط لجذب الاستثمار الأجنبي، وذلك بفضل المشاريع الهيكلية المختلفة التي تم إنجازها (ميناء طنجة المتوسط، ميناء الناظور غرب المتوسط، مشاريع وكالة مارتشيكا، المراكز اللوجيستية لصناعة السيارات، الطرق السريعة والطرق السيارة.. إلخ)؟ وهل واكب هذا الجهد الاستثماري في المشاريع والبنيات التحتية جهد آخر لا يقل أهمية، بل يعتبر هو المؤشر الحاسم لقياس نجاح كل هذه المشاريع أو فشلها، ويتعلق الأمر بجهد التأهيل الترابي لأقاليم الشمال على قدم المساواة، وتحسين الخدمات الاجتماعية المقدمة للمواطن، وتعزيز العرض المجالي للاستثمار، وتشجيع الإدماج الاقتصادي؟ وهل تحول شمال المغرب إلى قاطرة استثمارية ترغب كل الجهات المغربية الالتحاق بحاذبيتها الاستثمارية؟
من المؤكد أن القرار المركزي لم يراهن على الاستثمار في أقاليم الشمال بغاية تحويلها إلى معرض مفتوح على التقلبات الهوائية وضربات الشمس والرياح والأمطار والعواصف، أو أن يباهي بها أمام المنافسين الدوليين المفترضين، بل أكد في أكثر من مناسبة أن هذا الاستثمار خيار استراتيجي من أجل الحفاظ على دينامية اقتصادية وتجارية مستدامة. غير أن واقع الحال يبين أن هناك تناقضات صارخة بين الصورة والعمق، أي بين "المشاريع" المنفذة و"الإنسان" الذي من المفترض أن يستفيد منها، وهو الواقع الذي يساهم في اتساع الهوة بين الثروة ومصدرها، أي بين الاستثمار والقوة العاملة. وما يؤكد ذلك هو الفوارق الاجتماعية والمجالية المتفاقمة بالمناطق الشمالية، وتدهور القدرة الشرائية، لاسيما في العالم القروي، فضلا عن النقص الحاد في الماء الشروب وبروز ظاهرة الهذر المدرسي والبطالة والهجرة القروية، إلى جانب التباطؤ في تنفيذ المشاريع المقررة (كما وقع في الريف وأدى إلى اندلاع الاحتجاجات)، إلى جانب صعوبة الولوج إلى الخدمات الطبية، ذلك أن "التنمية البشرية" هي المنسي الكبير في مخططات الدولة، كما أن توزيع المشاريع يعرف تفاوتات كبيرة بين أقاليم و عمالات الشمال، حيث كانت وما زالت حصة الأسد من الاستثمارات توجه نحو محور طنجة- تطوان على حساب شريط الحسيمة تازة، وخاصة في المشاريع التي تهم تطوير البنايات الأساسية: الكهربة القروية والولوج إلى الماء الصالح للشرب وفك العزلة وبناء الطرق، والسكن الاجتماعي. بل إذا أردنا توسيع مفهوم أقاليم الشمال، فهناك فراغ كبير بين طنجة ووجدة. ذلك أن الخبراء يسجلون أنه من نتائج إحداث ميناء طنجة المتوسط وبناء معمل لإنتاج السيارات، كانت المفارقة أن أغلب اليد العاملة التي اشتغلت هناك جاءت من وسط المغرب وجنوبه، الأمر الذي يطرح بقوة إشكالية تلحيم الأجزاء الشمالية، وضرورة استفادة أبناء الشمال من المشاريع المنجزة في منطقتهم، علما أن الأمر يتعلق هنا بالتكوين العلمي والأهلية والكفاءة الفنية والتقنية والمهنية. وهو ما يفرض أيضا العمل في هذا الاتجاه من أجل تأهيل اليد العاملة بالشمال وتكوينها حتى يتأتى لها الاندماج في اقتصاد المنطقة، وحتى لا يضطر المستثمر إلى استيراد يد عاملة لها خبرة وتكوين ومهارات لا تتوفر محليا.
لقد كانت الغاية من رفع شعار تنمية أقاليم الشمال هي رفع الظلم التاريخي الذي طال المنطقة منذ نهاية الخمسينيات من القرن العشرين، وتعزيز قدرتها على المنافسة، من خلال رد الاعتبار للإنسان ومساعدته على تحقيق قدر أكبر من الرخاء، والمساهمة في تهيئة بيئة حاضنة لفرص الشغل، وخلق فرص للشمول الاقتصادي الذي من شأنه أن يساعد على تحويل المنطقة إلى منصة جذب تنافس إسبانيا، التي تحتل سبتة ومليلية، مما سيساهم في زيادة تدعيم القدرات المحلية وتلاحم النسيج الاجتماعي بين جميع سكان الشمال.
لقد تحسنت البنية التحتية للطرق والسكك والموانئ، إلخ... بشكل ملحوظ على مستوى الطرق السيارة الرابطة بين مدن الشمال، وتعمل الدولة من خلال مراكز الاستثمار الجهوية على تشجيع القطاع الخاص للاستثمار، غير أن المطلوب هو دعم التنمية الجهوية المتكاملة بمفهومها الشامل (اقتصاديا واجتماعيا)، والعمل على بناء المهارات المهنية والتقنية للمواطن الشمالي، مع التركيز على النساء والشباب في المناطق القروية، مما يساهم في تحسين مناخ الاستثمار العام، وهو الأمر الوحيد الذي سيعطي لمسار التنمية البشرية والترابية والمجالية المحلية للمنطقة معنى، وخاصة إذا تم التعامل مع المنطقة بمنطق الوحدة المجالية، إذ السؤال هو: كيف يمكن وضع خطة محكمة للتنمية إذا ظل الشمال مشتتا على ثلاث جهات، وإذا ظلت كل جهة تتحرك داخل برنامجها التنموي دون أي استراتيجية تكاملية مندمجة مع الجوار الجهوي؟
إن تنمية أقاليم الشمال، وفق ما أسلفنا، لن تتحقق إلا توفرت لدينا مجموعة من الشروط الأساسية التي علينا أن ندرك حيويتها في النظر إلى إشكالية التنمية بالمنطقة:
أولها، أن تنمية الشمال تهم أكثر من 5 ملايين نسمة إذا أضفنا إليها 3 ملايين نسمة التي تشكل ساكنة الشمال الشرقي.
ثانيا، ربط أجزاء الشمال بعضها في المشاريع التي تهدف إلى تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية وتوفير سبل التنمية البشرية والسوسيو اقتصادية، وفك العزلة عن المناطق القروية النائية وتخطي الاشكالات الاجتماعية التي تحد من تحقيق التنمية الشاملة.
ثالثا، إعادة النظر في تحديد منطقة الشمال وتوسيع هذا المفهوم.
رابعا، إيجاد بدائل مناسبة لمجموعة من الأنشطة الاقتصادية التي كانت سائدة في المنطقة، مثل الصيد البحري والصناعة التقليدية والتهريب المعيشي.
رابعا، إيجاد بدائل مناسبة لمجموعة من الأنشطة الاقتصادية التي كانت سائدة في المنطقة، مثل الصيد البحري والصناعة التقليدية والتهريب المعيشي.
خامسا، وضع بنية للتكوين المهني وتشجيع المهارات التقنية وربط الاستثمار بمحيطه. سادسا، الاهتمام بالعالم القروي وربط الإنسان القروي بمجاله الحيوي.
والخلاصة أن تنمية أقاليم الشمال ليست فقط هي بناء الطرق والموانئ والمراكز الصناعية والبنايات الفرعونية، بل هي أساسا بناء الإنسان والانتقال به إلى الرفاهية، على مستوى معيشه اليومي ومهنته وقدرته الشرائية والخدمات المقدمة إليه. وخارج هذا الإطار سيبقى الشمال «ماكينة» لصنع الهجرة السرية ومشتلا لجلب كل الراغبين في الحريك الفردي أو الجماعي.
وهو ما يقتضي الحزم ضد كل مسؤول خان لله والوطن والملك.
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"
رابط العدد هنا
رابط العدد هنا