الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد السلام بنعبد العالي: الألعاب الأولمبية من التاريخ إلى الصيرورة

عبد السلام بنعبد العالي: الألعاب الأولمبية من التاريخ إلى الصيرورة عبد السلام بنعبد العالي
تقدّم لنا الألعاب الأولمبية نوعين من الحركات الرياضية: حركة ترتكز على نقطة بعينها هي نقطة الانطلاق، وأخرى يتسلّل فيها الرياضي لينصهر في حركة قائمة تتقدّم انطلاقته. حتى وقت غير بعيد كان المفهوم السائد عن الحركة هو المفهوم الأول: بمقتضاه لا بدّ للحركة من أن تعتمد نقطة بعينها، نقطة انطلاقها، وهي نقطة تعتبر مصدر الحركة و"أصلها"، والمتّكأ الذي تستند إليه.

هذه هي النقطة التي يطلق عليها الفيزيائيون نقطة "الارتكاز". بيد أنّ الأمر لا يقتصر على المفهوم الفيزيائي وحده. يلاحظ جيل دولوز أنّ جلّ الرياضات التقليدية تعتمد هذا المفهوم عن الحركة مثل رياضة رمي الرماح، وقذف الكرات بمختلف ألوانها. حتى العدْو الريفي، يقوم على هذا المفهوم، ويجد نقطة ارتكازه في المتسابق نفسه حيث يكون العدّاء مصدر حركته و"أصل انطلاقها"، وحيث تتولّد الحركة عن "عزمه". كتب صاحب "ألفبساط": "الحقيقة أن مفهوم الحركة ظلّ دائم التحوّل، في الرياضة كما في السلوك والتصرفات، فنحن إن كنا عشنا، ولفترة طويلة، على مفهوم طاقيّ عن الحركة، وكنا دائما نعتقد في سند يأتي إما من نقطة ارتكاز، وإما منا نحن أنفسنا، باعتبارنا مصدر حركة، مثلما في العدْو ورمي الأثقال... إلخ، إن كان هذا هو ما عشنا عليه سابقا، جهد وشدّة اعتمادا على رافعة أو نقطة أصلية، فإن التحوّل الذي نشهده اليوم يتجلى في كون الحركة بدأت تتخلى في تحديدها، وبشكل لا يفتأ يتزايد، عن فكرة المستَند ونقطة الارتكاز هذه، فالرياضات الجديدة جميعها من ركوب للموج، وركوب الأمواج الشراعي، والألواح الهوائية الطائرة... هي من نوع الاندماج والتسلّل إلى موجة تكون متحقّقة بحركتها مسبقا. لم يعد الأمر إذن بحثا عن نقطة بداية ننطلق منها، بل صار نوعا أو كيفية في الولوج إلى المدارات: كيف نلج حركة موجة كبيرة أو تيار هوائي صاعد، أو نتكيف معها؟".
 
في الرياضات الجديدة إذن يحاول الرياضي أن يتسلّل وينخرط ضمن اهتزازة سابقة، كأن يحشر نفسه في حركة سباقات التتابع التي تُعتبر فيها العصا هي الخيط الواصل الذي يتبادله زملاء الفريق، لا سيّما في تخصصات الأولمبياد لمسافة 4 × 100 متر و 4 × 400 متر. هنا يظلّ الرياضي على أهبة في انتظار المتسابق الذي سيسلّمه العصا التي تُطلق عليها اللغة الفرنسية لفظ Témoin الذي يعني "الشاهد". فكأنّما "تشهد" تلك العصا الصغيرة التي تتنقل من متسابق إلى الذي "يأخذ عنه الحركة"، على استمرار هذه، وعلى تواصلها في استقلال عن المنخرطين فيها. ولعلّ الأمر الأوضح في رياضة ركوب الأمواج، حيث ينخرط الرياضي ضمن حركة الموجة مسلّما نفسه إياها. في هذه الحال، بدل أن يرتكز الرياضي على نقطة-أصل، فإن الحركة هي التي تأخذه. وهو يدركها وهي جارية، ولا يتبقّى عليه إلا أن يتسلل، أن ينسل بين-بين، وينخرط فيما يجري التحوّل الذي نشهده اليوم يتجلى في كون الحركة بدأت تتخلى في تحديدها عن فكرة المستَند ونقطة الارتكاز يتساءل دولوز، بعد إثبات هذين النوعين من الحركة: "السؤال الأساس الذي ينبغي أن نعيه اليوم، هو كيف نكون في الـ"بين بين"، عوض أن نعتبر أنفسنا مصدرا لقوة ما؟". كيف نكون "متموّجين" نرمي بأنفسنا في مدارات متواصلة الحركة، عوض أن نكون مولّدين لطاقات متقطّعة؟

عوضا عن مفهوم عن الحركة يؤكد "الانطلاق فالوصول"، سنجد أنفسنا أمام مفهوم مغاير يشير إلى "ما يجري بين-بين". بيد أن هذا المفهوم المغاير لا ينفكّ يلاقي صعوبات في أن يفرض نفسه. لذا فنحن نلحظ حنينا متزايدا وعودة لا تنفكّ تظهر إلى مفهوم الارتكاز، والانطلاق من أصل، والاستناد إلى مرجعيات قارة. صحيح أنّ المرجعيات قد تتبدّل، إلا أن الحنين إلى نقطة ارتكاز و"أرضية صلبة" لا ينفكّ عن الظهور.

هذه الأرضية نلمسها خصوصا في ما يتعلق بـ"الحركة" في المجال الفكري. وغالبا ما يتمّ ذلك تحت قناع وهم فلسفي يزعم أنّه يولي الحركة كبير عناية، وأنه لا ينفكّ يُعمل فكره في "التاريخي". بيد أننا، وكما يلحظ دولوز، كلما أولينا عنايتنا إلى التاريخ، فإننا لا نقوى على بعث الحركة. "إذ لا يكفي أن نقول إن المفاهيم تتحرك، بل نحن مطالبون بأكثر من ذلك، مطالبون بأن نصطنع مفاهيم قادرة على الحركة عقليا، كذلك لا يكفي أن نحرّك الظلال على الطريقة الصينية كي نخلق الحركة، بل ينبغي أن نكوّن صورا قادرة على الحركة من ذاتها".

هذا التشبيه بالصور السينمائية أمر مقصود هنا، وهو يذكّرنا بالفترة التي بدأت تظهر فيها هذه النظرة إلى الحركة عند الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون، وهي الفترة التي واكبت ظهور السينما.

أميل إلى الاعتقاد أن التمييز الذي أشرنا إليه بين المفهومين عن الحركة هو التمييز عينه الذي يضعه دولوز، بعد نيتشه، بين الصيرورة والتاريخ. في سياق آخر، يقتبس دولوز نصا لشارل بيغي من كتابه "كليو" (Clio)  يميّز فيه المؤرخ الكبير بين طريقتين للنظر إلى الحدث: إحداهما تتعلق باستعراض الحدث والوقوف على تحقّقه في التاريخ ومعاينة شروط حصوله وذوبانه، أما الأخرى فتروم الإقامة في الحدث كأنه صيرورة، والوقوف على مركباته وخصائصه المتفردة و"ركوب أمواجه".
 
الصيرورة ليست هي التاريخ: الصيرورة حركة من غير "سردية كبرى"، حركة لا تتكئ على سند ولا تعتمد مرجعية، أما التاريخ فربما هو لا يلجأ إلى الاعتماد على "الأساطير المؤسسة" وابتداع الأصول، أو إلى "السرديات الكبرى" إلا لكي يحدّد نقط الارتكاز، ويرسم المسارات، ويسمّي الأبطال، ويعيّن نقطة الوصول، ويضبط "الفاعل التاريخي" Le sujet de l'histoire، ويحدّد مجموع الشرائط التي ينبغي أن نوليها ظهرنا كي نتحرك. أما الصيرورة، فهي لا تحتاج إلى هذا كله، إنها ليست حركة "تنطلق من"، كي "تتجه نحو"، بل حركة تتسلل بين الفجوات، و"تركب الأمواج"، وتنخرط في البين-بين من غير أن تكثرت، لا بنقط ارتكاز، ولا بفاعل تاريخي.
 
عن مجلة "المجلة"