100 عام مرت على بروز فكرة مغرب عربي موحد لدى شعوب المنطقة ونخبها السياسية والفكرية، 77 عاما على تأسيس مكتب المغرب العربي بدمشق والقاهرة ولجنة تحرير المغرب العربي، 66 عاما على اجتماع طنجة لقادة الحركة الوطنية المغاربية لإحياء فكرة المغرب العربي، 60 عاما على إنشاء اللجنة الاستشارية للمغرب العربي ذات الطابع الاقتصادي (تمت على أربع مراحل أكتوبر64/ تونس، نوفمبر64/ طنجة، ماي 65/ طرابلس، فبراير 66/ الجزائر)، 34 سنة مرت على توقيع قادة البلدان الخمسة، المغرب، الجزائر، ليبيا، موريتانيا وتونس، بمراكش على معاهدة تأسيس اتحاد المغرب العربي، التي شكلت نقلة نوعية في الاندماج المغاربي، من مجرد التطلع والطموح إلى الانطلاق العملي والفعلي للمشروع والدفع به نحو الأمام.
تحيل هذه التواريخ إلى قراءة أولية جد إيجابية، تتميز بكون الرعيل الأول من الحركات الوطنية كانت لديهم جميعا أحلام وردية صادقة باللّمّة داخل البيت المغاربي والتوافق على رؤى وخيارات وحدوية مثالية أقرب إلى التنفيذ والواقعية، بعد استحالة مشروع الوحدة العربية والتوجه نحو تكريس القطرية.
تعددت تسميات هذا التجمع من قبيل: "المغـرب العربي"، "المغـرب العربي الكبير"، "المغرب الكبير"، "الفضاء المغاربي"...، إلى جانب هذه المسميات برز في السنوات الأخيرة مصطلح جديد يعكس واقع حال هذا التجمع إنه: "اللاّمغرب" بلام النفي، بمعنى يفيد أن هذه الرقعة الجغرافية الواسعة الفضاء انتقلت من حالة الممكن إلى وضعية اللاّممكن، بعدما استعصى على أهلها التوافق، ونَحَتْ طريق الشتات والتفرقة والتباعد بل التناحر والتطاحن...
لن يُتْعِب الباحث نفسه وهو يحاول سبر أغوار هذا التجمع الإقليمي ودراسته وتحليله، فأدواته بسيطة التفكيك والتجميع، ومخزون طاقاته ظاهر للعيان بشريا، عرقيا، دينيا، لغويا، اجتماعيا، حضاريا وثقافيا، فضلا عن تنوع ووفرة ثرواته وموقعه الجغرافي الاستراتيجي الهام. كما أن مشاكله ومشاغله ومسببات نجاحه وفشله ظاهرة للعيان ولا تحتاج إلى كثير عناء.
وتضع آراء الباحثين والمحللين والمتابعين والمهتمين بالشأن المغاربي يدها على مسببات الفشل ومكامن الخلل في تَعَطُـلِ الآلة المغاربية بشكل متوافق عليه لا خلاف إلا فيما نذر، نذكر منها: تجدر الخلاف المغربي الجزائري، قضية الصحراء المغربية، ضعف الايمان المشترك بالعمل الوحدوي المغاربي، صراع النفوذ وحلم بل وهم الزعامة والتّسيُد بالمنطقة، خيار البناء الوطني السيادي المنفصل مغاربيا، الجوار الصعب والمتقلب المبني على عدم الثقة، سيادة العلاقات المتلبسة والعلاقات الفاقدة البوصلة واعتماد أسلوب الصراع بدل التعاون، غياب الديمقراطية وسيادة الحكم الديكتاتوري، تقلب آراء ومواقف النخب الحاكمة، الفرق الشاسع بين الخطاب والممارسة إزاء مشروع بناء المغرب الكبير، تهميش دور مؤسسة اتحاد المغرب العربي ومحاولات اختلاق تكتلات بديلة، غياب أي دور للأحزاب والنخب السياسية والفكرية خارج دائرة الأجهزة الحاكمة.
كلها عوامل ترفع كلفة عدم التعاون السياسي والاقتصادي والتجاري والمالي، في ظل محاولات نظام العسكر بالجزائر مَحْو ــ عن قصد وسبق إصرار ــ ما تم تجسيده على أرض الواقع وعلى ما اتفق عليه القادة الراحلون: الحسن الثاني، الشاذلي بن جديد، معمر القذافي، معاوية لد سيد أحمد الطايع وزين العابدين بن علي، بمراكش يوم 17 فبراير 1989، على قيام اتحاد المغرب العربي وتفعيل مؤسساته.
وهو ما لوحظ حين انشغل نظام الجزائر في السنوات الأخيرة بالشأن المغاربي، لكن مع الأسف في الاتجاه التدميري التخريبي، وذلك من خلال محاولة القضاء على أي دور لمؤسسة اتحاد المغرب العربي واعتباره هيكلا متجاوزا بل والدخول في نزاع مع أمانته العامة، وثانيا بالمناورات اليائسة لتهميش وإقصاء المغرب من أي مشروع تكتل جديد، وقطع أي سبل للحوار مع الرباط رغم نداءات اليد الممدودة، وثالثا عبر مساعي الاحتواء والاستقطاب لكل من تونس وليبيا واستغلال ظروفهما وأزماتهما السياسية والاقتصادية، والعمل من جهة أخرى على استدراج موريتانيا إلى منظومتها التشطيرية الجديدة، في مساع عبثية لتجنيد وتجييش هاته الدول وخلف نوع من تحالف مناهض للمغرب تقحمه ضمن مخططاتها وأهدافها الحالمة، بغاية زعزعت التصورات المغاربية المشتركة عن المستقبل، بشكل يكشف أننا أمام أوهام جزائرية تؤسس لمشروع التفرقة وتقطيع أوصال الاتحاد المغاربي الخماسي، وزرع بدور النزاع واختلاق الأزمات والمضي بالمنطقة نحو حافة الخطر والمهالك.
ولنا في استغلال نظام الجزائر فرصة استضافته للقمة السابعة للدول المنتجة للغاز في الثاني من مارس الجاري، بعقد لقاء قمة ثلاثية، على هامش هذا المؤتمر، ضمت عبد المجيد تبون/ الجزائر، قيس سعيد/تونس ومحمد المنفي/ ليبيا، بهدف تشكيل "تكتل مغاربي" جديد بدون المغرب، وقد رفض الرئيس الموريتاني الانضمام إلى أي تكتل مغاربي لا يشمل المغرب، طبقا لمصادر إعلامية.
الطروحات البديلة لهذا الاتحاد الخماسي التي يُطْل بها علينا النظام الجزائري من حين لآخر، تأتي على شكل نزق وعبث سياسي، يريد حكامه استغلال ظرفية الإعاقة التي يعاني منها العمل المغاربي المشترك، طروحات فاقدة للإرادة رافضة للولاء الفعلي للمشروع المغاربي، تدعو إلى التشطير المغاربي على شكل تجمع ثلاثي وآخر ثنائي ونموذج رباعي، كأننا أمام عروض بيع وشراء قطع أرضية أو توزيع وجبات سريعة، تـُنِـمُّ عن أن أصحابها لا يدركون مغزى صلابة هذه المنطقة المغاربية الوحدوية وصمودها في وجه أعاصير وتقلبات السياسة ونزوات المال والمصالح والرغبة في التّسَيُد.
وهناك عامل آخر خطير حضر بغاية تكريس الشتات المغاربي، تمثل في محاولات إقحام الشعوب المغاربية في لعبة الأنظمة، بالعمل على تجييشها وتعبئتها ضد بعضها والمضي نحو تعميم ونشر ثقافة التباعد والحقد والفرقة والتفرقة والكراهية، وقد كانت الرياضة من أبرز عناوينها مؤخرا، نموذج كأس العالم بقطر 2022 وبطولة كأس إفريقيا للأمم بالكوت ديفوار 2024، عندما أقدم ثلة من المسخرين من قبل نظام الجزائر بحرق قميص الفريق الوطني لدولة جارة مغاربية عربية إسلامية شقيقة، والتنكر لانتصارات فريقها ومنجزاته المشهود بها عالميا، في أبشع صور الإمعان في تكريس عقيدة العداء والحقد والتحريض واستغلال الحكام للشارع والحدث الرياضي لتمرير سياستهم ونزواتهم الدنيئة.
إن قوة المنطقة المغاربية ووحدتها تكمن في العمق ومفاتيحها ليست بيد أحد، بعيدة المنال عن أصحاب المستعجلات والدوافع الطارئة والظرفية لأغراض مصلحية تشتيتيه صِرْفة، السَّاعين إلى إنشاء تحالفات ضيقة سجينة نزوات على حساب المصلحة المغاربية الشاملة. لكن الظروف والتجارب أثبتت أنها سرعان ما تنهار وتتفكك وتزول بنفس السرعة والطريقة التي ظهرت بها، لكونها تقوم على أساس المناورات والخداع والاستقطابات ومحاولات تهميش طرف على حساب طرف آخر، وأيضا لافتقارها للمكونات والعناصر الموضوعية والركائز الثابتة لقيام أي تجمع وحدوي، وقد جرب نظام الجزائر بإغراءاته ونزواته وحساباته الضيقة هذه الأشكال، التي يَبْتَزه فيها ماليا من يسايرونه في ألاعيبه ظرفيا مدركين أن هذا المشروع الوهمي سرعان ما سيتبخر.
التاريخ كان دوما ساحة للصراع بين قوى التخريب وقوى البناء المؤمنة برسالة التشييد لا الهدم المتمسكة بخيار التسامح والتعايش المشترك والأمن والسلم والاستقرار لا الحروب والمعارك والتنافر، بل القطيعة مع سياسة إغلاق الحدود والمعابر والأجواء والبحار والأنفاس وتدمير جسور التواصل والاستمرار في اختلاق المعوقات، ورفع سقف الحواجز أمام الاندماج الإقليمي. بما يفيد أن جوهر المشكل المغاربي مرتبط أساسا بالأدوار التخريبية العبثية التي تنهجها بعض دوله ــ أقصد الجزائر بالذات ــ، وليس بهيكل اتحاد المغرب العربي كمؤسسة وبرنامج عمل وحدوي، الذي يظل على الدوام رهان شعوب المنطقة.
ليس هناك من بديل لدول وشعوب المنطقة المغاربية سوى التمكن من احتواء هذه المناورات وتمسك قياداتها بخيار طي صفحة اللامغرب من أجل المشروع المغاربي، يتطلع إلى مستقبل في الأفق المديد وفق أفكار متحررة وحدوية مؤمنة، كخيار استراتيجي، بالتكامل السياسي والاقتصادي والتنمية والتحديث وانبثاق إرادة العمل والبناء المشترك والإيمان بالمستقبل الواعد الذي يخدم مصالح الجميع بالمنطقة المغاربية، في مواجهة التحديات العالمية.
قد نفشل اليوم، ولكن سيأتي جيل آخر غدا ينجح فيما فشلنا نحن فيه... فاتحاد المغرب العربي، مشروع لا يختلف عليه اثنان من شعوب شمال إفريقيا، كتجمع ونهج وحدوي يحتضن أقطاره الخمسة، المغرب، الجزائر تونس، موريتانيا وليبيا، بشكل مترابط وتكاملي دون تفكك لأوصاله.
اطمئنوا إذن فالاتحاد المغاربي مريض لكنه لم يمت...
محمد بنمبارك، دبلوماسي سابق، عضو المكتب التنفيذي للمركز المغاربي للإعلام