من المعروف أن المسألة الاجتماعية كانت وماتزال جوهر السياسة، فكرا وممارسة، سواء في البلدان المتقدمة أم البلدان الباحثة عن طريق التنمية الاجتماعية الحقيقية.
بداية لابد من الإشارة إلى أن المسألة الاجتماعية بالمغرب ترتبط أساسا بسياقات مجتمعية محددة ومراحل تاريخية مفصلية عرفها المغرب منذ استقلاله سنة 1956. فكيف إذن تعاملت الدولة المغربية مع المسألة الاجتماعية منذ الاستقلال؟ وما هي الإكراهات التي واجهتها الدولة وماتزال للتصدي للفقر والبطالة والتهميش؟ تم ما مدى نجاعة المؤسسات الاجتماعية ؟
مما لاشك فيه أن المسألة الاجتماعية شكلت نقطة اهتمام الدولة منذ السنوات الأولى للاستقلال، لاسيما في العالم القروي الذي كان سكانه يشكلون أكثر من 60% من مجموع سكان المغرب. وكان "المغرب القروي" يعاني الفقر والحاجة، وخلال مرحلة ما بعد الاستقلال مباشرة إلى حدود سنة 1970 كانت هناك محاولات "لهيكلة الحقل الاجتماعي" ومأسسته، من خلال مؤسسات عمومية كالتعاون الوطني والانعاش الوطني وصندوق المقاصة. بالإضافة إلى ذلك تم انطلاق برامج اجتماعية في مجال التغذية والماء الصالح للشرب والكهرباء، إلا أن هذه البرامج والمؤسسات كانت مرتبطة أساسا بتقديم الدعم المباشر للفئات الأكثر فقرا وهشاشة من أجل استقرار المجتمع واستمراريته نظرا للتحديات السياسية والاجتماعية والأمنية التي كانت تواجه الدولة آنذاك.
لكن مع بداية الثمانينات، وفي خضم التحولات السياسية الدولية، التي شهدها العالم، من انهيار الثنائية القطبية، بالإضافة إلى الإكراهات المالية والجفاف الذي عاشته البلاد، شرعت الدولة إلى تطبيق برنامج التقويم الهيكلي سنة 1982 والذي دام عشر سنوات. هذا البرنامج كان له على المستوى الاجتماعي تبعات كارثية كنتيجة مباشرة لاعتماد المغرب سياسة تقشفية، من خلال تراجع النفقات العمومية الموجهة للصحة والتعليم والشغل والصناديق الاجتماعية.
وللتخفيف من حدة انعكاسات برنامج التقويم الهيكلي شرع المغرب في إطلاق برنامج الأولويات الاجتماعية سنة 1993 مستهدفا تطبيق سياسة تنموية في المجال الاجتماعي. وفي سنة 1999 تم إنشاء وكالة وطنية للتنمية الاجتماعية، كآلية لتدبير البرامج الاجتماعية، وإعداد مشاريع القرب وتم خلق 16 تنسيقية جهوية، تعمل وفق أولويات يتم تسطيرها في مخططات هذه المؤسسة، والهدف منها تقليص الخصاص الاجتماعي، عن طريق تقوية قدرات الفاعلين الاجتماعيين، ودعم الأنشطة المدرة للدخل لدى الفئات الهشة من المجتمع، ودعم البنية التحتية الأساسية، ودعم التنمية الاجتماعية بالمدار الحضري.
وبالموازاة مع عمل هذه المؤسسة، تم إحداث مؤسسة خاصة بالتضامن حملت اسم "مؤسسة محمد الخامس للتضامن. وفي الأخير توجت هذه المبادرات الاجتماعية بإعطاء انطلاقة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في سنة 2005.
وعموما، ومن خلال هذا الجرد العام يتبين أن السلطات العمومية اشتغلت على المسألة الاجتماعية من منطلق الشراكة مع باقي الفاعلين، الجمعيات، التعاونيات، المنظمات الغير حكومية، الجماعات الترابية... غبر أن جائحة كوفيد19 وإعلان حالة الطوارئ الصحية كانت لها تداعياتها السلبية، وتسببت في زيادة حدة التفاوتات الموجودة أصلا، مما أدى تعميق الجرح ورجوع فئات واسعة من المغاربة إلى الفقر.
ومع ذلك، لا ينبغي إلقاء المسؤولية في تدهور الأوضاع الاجتماعية على الأوبئة والبيئة والحروب، إذ المسؤول عنها في المقام الأول، هو السياسات العمومية المتبعة والمؤسسات الدستورية الفاعلة في الميدانين التنموي والاجتماعي كالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي مثلا.
وفي ظل هكذا وضع وجدت الدولة نفسها ملزمة من الناحية السياسية بالتدخل لحماية بعض الفئات المتضررة من إجراءات الطوارئ الصحية، من خلال تقديم دعم استثنائي مباشر للأسر المتضررة وبعض الوحدات الاقتصادية.
ورغم المجهودات المبذولة من مبادرات وبرامج اجتماعية، إلا أنها لم تحقق الأهداف المرجوة، ومسببات ذلك كثيرة لعل من أهمها: كثرة المتدخلين، وتعدد البرامج الاجتماعية، وغياب الإلتقائيــة، والأهم من ذلك، فقدان نخب سياسية واقتصادية نزيهة تؤمن بالتضامن والتعاون.
اليوم يبدو الوضع الاجتماعي في المغرب مقلق ( التضخم، ارتفاع الاسعار، الديون، البطالة ...)، كما أن الفجوة بين أغنياء المغرب وفقرائه تتسع أكثر فأكثر، وهذه الفجوة أفرزت الكثير من المظاهر منها: الحرمان والكراهية وانعدام الثقة بين طبقة الثراء الفاحش وطبقة المهمشين والمعطلين والمحرومين من المستلزمات الأساسية للحياة.
وهنا تطرح تساؤلات كثيرة حول إمكانية المغرب الخروج من عنق الزجاجة، وإيجاد مخرج من الاختلالات الاجتماعية والاقتصادية التي يعيش على وقعها المغرب.
وصفوة القول: لمواجهة الرياح العاتية والأمواج الصاحبة للقلاقل والمشاكل المحيطة بالمغرب من كل حدب وصوب، المطلوب العمل على تشييد الدولة الاجتماعية ودولة القانون معا، باعتبارهما متلازمان لا ينفصلان عن بعضهما. فبدون عدالة اجتماعية ودولة القانون فلن تكون هناك تنمية مستدامة تعمل لصالح الناس.