برحيل عالم المستقبليات المهدي المنجرة (13 مارس 1933 - 13 يونيو 2014) رحل عنا مفكر عربي معاصر من طينة نادرة. رجل أجمع الكثيرون على أنه وطني صادق ونزيه. رجل مواقف ومبادئ، مثقف شجاع. لا يركن إلى المهادنة وتنميق الخطاب. علامة من علامات الثقافة والفكر في العالم. خبير متخصص في علم المستقبليات(وضع تصورات مستقبلية على شكل إمكانات وطرق واضحة للمسيرة البشرية في الحياة). اشتهر المرحوم المهدي المنجرة بجمعه وربطه بين العلم والثقافة، وإعطائهما المكانة التي يفترض أن يساهما من خلالهما في تطوير أسلوب العيش اليومي، وإبداع مشاريع لتنمية الشعوب. كما تميز بأن كانت كتبه الأكثر مبيعا في فرنسا ما بين سنة 1980 و1990.
"أنفاس بريس" تفتح صفحات من حياة المرحوم المهدي المنجرة، وتروي مقتطفات من سيرته، حسب أجوبته على أسئلة خاصة بجلسات حوار أجراه معه الكاتب المسرحي محمد بهجاجي والشاعر حسن نجمي لفائدة يومية "الاتحاد الاشتراكي"، وقد تمَّ تجميع هذا الحوار في كتاب صدرت طبعته الأولى سنة 1997 بعنوان "المهدي المنجرة (مَسَاُر فِكـْر)".
الحلقة السادسة:
كان المهدي بالموازاة مع اشتغاله بمكتب المغرب بأمريكا للدفاع عن استقلال المغرب، يدعم مجهودات "إخواننا الجزائريين والتونسيين" كما نعتهم، إذ تابع الإجراءات مع السي باهي الأدغم بالولايات المتحدة الأمريكية بهدف فتح المكتب التونسي، خاصة أنه كان قد علم أن إنجليزية "الأدغم" آنذاك كانت غير كافية، كما كان المهدي قد استقبل الحبيب بورقيبة بالمطار بعد وصوله للولايات المتحدة الأمريكية، حيث رافقه إلى القاعة التي تحتضن دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكان أن قال له بورقيبة حينها "إنك أول سفير لتونس في الخارج". لما تمَّ فتح المكتب الجزائري كانت للمهدي اتصالات عديدة بمحمد اليزيد وعبد القادر الشندرلي ثم الحسين آيت أحمد فيما بعد. تطورت علاقة الجزائر بالمهدي المنجرة في تلك الفترة من حياته وتم تشريفه بانتدابه للحديث باسمها في المؤتمر السنوي السادس بباركلي بكاليفورنيا، فبعد حصول المغرب على الاستقلال كان المهدي لا يزال يتابع دراسته الجامعية بإنجلترا ويتحمل مسؤولية رئيس رابطة الطلاب العرب هناك، وقد مكنته هذه المهمة من الانتقال إلى "باركلي" لتمثيل الرابطة المذكورة في المؤتمر السنوي السادس (المنعقد في 4 شتنبر 1957)، وحينها فكر الإخوة الجزائريون في إرسال برقية يفوضون فيها للمهدي الحديث في المؤتمر كناطق باسم جبهة التحرير الجزائرية، وقد كان تفويضا تاما بحيث لم يسلمه الإخوة في الجبهة أية كلمة أو توصية أو توجيه. وفي هذا المؤتمر استنكر المهدي حرب الإبادة التي كانت تشنها فرنسا ضد الجزائر، وقد كان إلى جانبه "المهدي بنعبود" الذي كان آنذاك سفيرا للمغرب بواشنطن، حين ذكر المهدي هذه الفترة من عمره قال "إنني أعتز بهذا التشريف، وبأجواء الثقة وروح التعاون والأخوة التي كانت سائدة بيننا كعرب مغاربيين". منحت المهدي الظروف فرصة أن يعاشر وجوها ساهمت في تدعيم مساره التكويني ووضعت كل ثقتها فيه كشاب، ومن بين هذه الوجوه "المهدي بنعبود" الذي كان يمنح المهدي كل الوقت للإنصات إليه منذ كان سنه 20 سنة. كان بنعبود طبيبا أخصائيا في أمراض الجلد وذا ثقافة واسعة تمزج بين آليات التفكير الفلسفي وخصائص التفكير العلمي. إلى جانب بنعبود كان هناك عبد الرحمان "بنعبد العالي" وقد تواصلت المراسلة بينه وبين المهدي إلى غاية وفاة "بنعبد العالي" سنة 1959، كانت شخصيات أخرى عالمية قد أُثرت في المهدي وشكلت بالنسبة له أسلوبا خاصا في الحياة والتفكير، من بينها "أدلي ستيفينس" المندوب الدائم للولايات المتحدة في الأمم المتحدة، ومن بين الذكريات التي كانت تحيي باستمرار في ذهن المهدي المنجرة: أنه حين كان طالبا في "كورنيل" كان من بين أصدقائه ابن "ميتشل" الكاتب العام للحزب الديموقراطي بالولايات المتحدة الأمريكية، وقد مكنه هذا الصديق من الاجتماع بأبيه، الذي كان يرشح نفسه منافسا لـ "أدلي ستيفنس" آنذاك لانتخابات الرئاسة الأمريكية، وكانت من نتائج لقاء المهدي بـ "ميتشل" أن نجح بمساعدة إخوته في مكتب المغرب، في إدراج مشاكل الاستعمار والقضية المغربية ضمن البرنامج الانتخابي لـ "الحزب الديوقراطي". كان المهدي قد انخرط ضمن اتحاد الديموقراطيين الشباب بولاية نيويورك وانتخب فيها نائبا للرئيس.
كانت إقامة المهدي في الولايات المتحدة الأمريكية من 1948 إلى 1954، غنية جدا سواء على مستوى تعدد الفعاليات: الكيمياء والفيزياء، العلوم الاجتماعية والسياسية، أو على مستوى العمل الوطني من أجل استقلال المغرب والعمل على واجهة المغرب العربي وقضايا العالم الثالث، وكان إضافة إلى ذلك عضوا في فريق لكرة القدم ومؤسسا للنادي الشرفي ولجمعية المسلمين ورئيسا للمجلس العالمي للطلبة، وعضو هيئة تحرير "كونيل ديلي سان" التي تصدرها جامعته. هذا المسار توج بحصول المهدي على الإجازة في سن الواحة والعشرين 21.
(يتبع)
ملحوظة: العناوين من اختيار هيأة التحرير