السبت 20 إبريل 2024
سياسة

الفرياضي: دسترة الجزائر لدعم حركات التحرر تم بعد استرجاع المغرب لصحرائه وخلق البوليساريو

الفرياضي: دسترة الجزائر لدعم حركات التحرر تم بعد استرجاع المغرب لصحرائه وخلق البوليساريو عبد الله الفرياضي، باحث في الشؤون الصحراوية
على ماذا تبني الجزائر أطروحاتها بشأن دعم حركات التحرر الوطني عبر العالم؟
للإجابة عن سؤالك هذا أعتقد بأنه من الأفيد أولا ضبط دلالة مفهوم «حركات التحرر الوطني»، ثم العمل بعدها على استجلاء مرتكزات دعمها في موجهات السياسة الخارجية للجزائر. حيث تعرف حركات التحرر الوطني عادة بأنها تنظيمات تتغيا استعادة السيادة على ترابها الوطني من المستعمر الأجنبي، إما عن طريق النضال السياسي السلمي أو عن طريق الكفاح المسلح أو بهما معا، وذلك إثر موجة التوسعات الامبريالية التي شنتها الدول الغربية على بقية دول العالم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. وقد ظهر هذا المفهوم بشكل أساس عقب الحرب العالمية الثانية.
أما بالنسبة للجزائر فنجد أن هذا المفهوم يعتبر من بين المبادئ المؤطرة لسياساتها الخارجية، حيث حرصت على دسترة هذا المبدأ في مختلف دساتيرها باستثناء الدستور المعتمد سنة 1963، أي مباشرة بعيد إعلان استقلالها عن المستعمر الفرنسي سنة 1962. ففي عهد الرئيس محمد إبراهيم بوخروبة المشهور باسم الهواري بومدين ستعرف الجزائر أول تعديل دستوري سنة 1976، وفي هذه الوثيقة الدستورية سيتم التنصيص رسميا في الفقرة الثانية من المادة 92 على أنه «تضامن الجزائر مع كل الشعوب في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، في كفاحها من أجل تحررها السياسي والاقتصادي، من أجل حقها في تقرير المصير والاستقلال، يشكل بعدا أساسيا للسياسة الوطنية». وسيتم تعديل صياغة هذه الفقرة في التعديلات اللاحقة لتتحول إلى عبارة تنص على أن «الجزائر متضامنة مع جميع الشعوب التي تكافح من أجل التحرر السياسي والاقتصادي والحق في تقرير المصير»، وهي الصياغة التي سيتم اعتمادها حرفيا في المادة 26 من دستور 1989، ثم في المادة 27 من دستور 1996، ليتم تثبيتها في المادة 30 لكل من دستوري 2016 و2021. 
 
لكن على الرغم من هذا التأصيل الدستوري يسجل على النظام الجزائري أنه يتعامل بسياسة الكيل بمكيالين مع مختلف الحركات التي تقدم نفسها على أنها حركات تحررية. وهو ما يمكن ملاحظته من خلال نهجه إما لمنطق التنكيل والقمع مع بعضها أو المناهضة والتجاهل مع البعض الآخر. لماذا هذه السياسة في نظرك؟ 
بالفعل، فهذه ملاحظة جوهرية بخصوص طبيعة العقيدة المؤسسة لسياسة النظام الجزائري الخارجية. ذلك أن ادعاءه الدفاع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها والتغني بدعم حركات التحرر ليس في الواقع إلا أداة لتسويغ وتبرير تدخلاته في الشأن الداخلي للمغرب حصرا. فلو حاولنا تتبع ورصد مواقف هذا النظام تجاه أغلب التنظيمات التي تقدم نفسها على أنها حركات تحرر عبر العالم لتوضحت لنا هذه المفارقة بشكل جلي.
ففي الثلاثين من أكتوبر 2017 مثلا، أعلنت الحكومة الجزائرية، على لسان الناطق الرسمي باسم وزارة الشؤون الخارجية، عبد العزيز بن علي شريف، عن رفضها القاطع لمجرد إجراء استفتاء بشأن انفصال كل من إقليم كردستان عن العراق، وكاتالونيا والباسك عن إسبانيا، بل شددت على أن موقفها ثابت بشأن سيادة العراق وإسبانيا وسلامة ووحدة أراضيهما.
وبالنسبة لإيطاليا فقد ابتلع النظام الجزائري لسانه ولم يُفَعل، ولو شفويا، مبدأ تقرير المصير أو دعم حركات التحرر بخصوص مطالب رابطة الشمال لاستقلال بادانيا بشمال إيطاليا، فيما أعلن مناهضته لمطالب جبهة التحرير الوطنى فى كورسيكا بشأن الاستقلال عن فرنسا، نفس الشيء يمكن تسجيله بشأن مناهضة الجزائر لمساعي جبهة «تيكَراي» من أجل الانفصال عن إثيوبيا. 
وعلى الحدود الجنوبية للجزائر نفسها، لم يذخر النظام العسكري جهدا في سبيل إجهاض أية محاولة لاستقلال إقليم «أزواد» عن دولة مالي، حيث رعت الجزائر العديد من جولات المفاوضات التسويفية بين الحركات المسلحة للطوارق وحكومة باماكو دون تحقيق أية نتيجة على أرض الواقع.
أما وأن حال تعامل الجزائر مع هذه الحركات الخارجية لا يقل عن هذا النحو من السوء، فإن المنطق الذي تتعامل به مع التنظيمات المطالبة بالاستقلال من الداخل أسوأ بكثير. حيث تابع العالم بأسره كيف سمح النظام العسكري لنفسه بإعلان حركة تقرير المصير لمنطقة القبايل (MAK) التي يقودها المعارض فرحات مهني، حركة إرهابية، وهو القرار الذي أصدره مجلس الأمن الجزائري في الثاني من شهر دجنبر 2020، مع ما رافق هذا الإعلان من حملات اعتقال واسعة في صفوف أعضائها، على الرغم من سلمية هذه الحركة ونضال أغلب منتسبيها في المنافي خارج الجزائر. أما بخصوص حركة التحرر الفلسطينية فالجميع يعلم ما قدمه النظام الجزائري فعلا لهذه الحركة، ولا أعتقد أننا في حاجة إلى التذكير بذلك. 

بل يحتاج الأمر إلى توضيح، فالشائع أن النظام الجزائري من أنشط الأنظمة الداعمة للحركة التحررية الفلسطينية، فكيف يستقيم ما يشاع إذن مع التلميح إلى ما يخالف ذلك؟
دعم النظام الجزائري لحركة التحرر الوطني الفلسطينية، شأنه شأن كثير من أنظمة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مجرد جعجعة لا تؤتي طٍحْناَ. إنه دعم لا يتجاوز مستوى الشعارات وٍالخطب الحماسية إلى مستوى الفعل الناجز والحقيقي. فالتشدق بدعم مطالب التحرر الوطني الفلسطينية مجرد جعجعة للاستهلاك الداخلي ولدغدغة عواطف الملايين من الشعب الجزائري من أجل تأبيد التسلط والاستمرارية ومحاولة اكتساب شرعية شعبية مفقودة.
أما دفعنا في تعليل هذا الزعم فيكفي أن نقول إنه وعلى الرغم من كون الجزائر دولة بترولية وغازية، فإنها لم تجرؤ يوما على ترجمة شعاراتها إلى دعم عسكري واقتصادي ومالي للشعب الفلسطيني. ولنأخذ على سبيل المثال نموذج وكالة بيت مال القدس. ففي الوقت الذي تشير فيه الأرقام الصادرة عن هذه الوكالة إلى أن موازنتها المالية منذ تأسيسها سنة 1998 ممولة تقريبا من ميزانية المملكة المغربية والضرائب المستخلصة من جيوب المغاربة وتبرعاتهم، حيث بلغت مساهمة المغرب أكثر من 87 في المائة من مجموع مساهمات الدول المنضوية تحت لواء «منظمة التعاون الإسلامي»، نجد النظام الجزائري قد قرر التوقف عن سداد مساهمته في هذه الموازنة منذ سنة 2011. أوردنا هذا المثال كيلا لا نضطر إلى التذكير بالاعتمادات الخاصة التي يرصدها المغرب لبناء المؤسسات التعليمية والدينية والاجتماعية الفلسطينية سواء في القدس والضفة الغربية أو في قطاع غزة. أما بالنسبة للدعم السياسي فيكفي التذكير بأن المغرب - حتى وهو يقرر استئناف علاقاته الدبلوماسية مع إسرائيل - قد أصر على تجديد التأكيد على مواصلة دعمه المبدئي لحركة التحرر الوطني الفلسطيني. 
 
ينص منطوق الدستور الجزائري صراحة على النأي والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، لكن النظام الجزائري لا يفتأ يتدخل وبشكل سافر في الشأن الداخلي المغربي بمبرر دعم الحق في تقرير المصير، وهو المبرر الذي أتيتم على توضيح زيفه. بماذا تفسرون هذه المفارقة؟
صحيح أن الجزائر قد نصت في جميع دساتيرها، باستثناء الدستور الأول، على أنها «تمتنع عن اللّجوء إلى الحرب من أجل المساس بالسّيادة المشروعة للـشّعوب الأخرى وحرّيتها. وتبذل جهدها لتسوية الخلافات الدّولية بالوسائل السّلميّة. علاوة على عملها من أجل دعم التعاون الدّولي، وتنمية العلاقات الودّية بين الدّول، على أساس المساواة، والمصلحة المتبادلة، وعدم التدخّل في الشؤون الدّاخلية»، غير أن واقع الحال يكشف لنا زيف هذا الادعاء.
فإذا تقرر كما أسلفت الذكر أن مبدأ دعم حركات التحرر وتقرير المصير مجرد شعار مهجور من أية مصداقية، فإن التحجج به لدعم حركة انفصالية وتسليحها وتدريبها واحتضانها يعد بالفعل تدخلا سافرا في الشأن الداخلي المغربي ومساسا مباشرا بوحدة وسلامة أراضيه. إن تعمدنا إجراء مسح كرونولوجي لعملية التنصيص الدستوري جزائريا على مبدأ دعم حركات التحرر كان لهذا السبب بالذات، فالتواريخ والأرقام لها دلالاتها القوية كلما أخضعناها للقاعدة الناصة على أن المناسبة شرط. ذلك أنه لو تم اعتماد هذا المبدأ، أي مبدأ دعم حركات التحرر وحق الشعوب في تقرير مصيرها، في أول دستور جزائري معتمد سنة 1963 لكان اعتماده منطقيا ومقبولا، بل ومنزها عن أي تجريح، وذلك لاعتبار شرط المناسبة، حيث أن تلك الفترة كانت هي أوج وذروة العمل التحرري في مختلف بقاع العالم الرازحة تحت نير الاستعمار. إلا أن إدراج هذا المبدأ في الدستور الجزائري لن يتم إلا سنة 1976، وهي السنة التي أقدم فيها المغرب على قطع علاقاته مع الجزائر بعد احتضانها لجبهة «البوليساريو» الانفصالية وتوظيفها في حرب استنزاف بالوكالة ضد المغرب بعد تأسيسها سنة 1975.
المسألة هنا محكومة بثلاثة عوامل وأسباب: أولها العامل الاقتصادي، حيث لا يخفى على أحد أن انخراط النظام الجزائري في هذا المسلسل العدائي للمغرب منذ حرب الرمال إلى الآن، مع ما شهده هذا المسلسل من استغلال مغالطي لمبدأ الحق في تقرير المصير ودعم الحركات التحريرية، إنما يعزى في الجانب الأكبر منه إلى الرغبة في الاستحواذ على الثروات الطبيعية للمنطقة. أما ثانيها فيتجلى في العامل الجيو-ستراتيجي، ذلك بأن هذا النظام العسكري مسكون بهاجس منافسة المغرب على القيادة الإقليمية لمنطقتي الساحل وشمال غرب افريقيا.
أما ثالث هذه العوامل فيتجسد في حاجة النظام الجزائري إلى عدو دائم يضمن له سبل استمرارية كينونته، وذلك عبر تصدير أزماته الداخلية إليه. فمن المعلوم أن هذا النظام العسكري عادة ما يلجأ إلى انتهاج استراتيجية ترحيل أزماته نحو المغرب كلما فشل في تدبيرها، مع ما تختزنه هذه اللعبة التقليدية من صرف لأنظار الشعب عما يقع في البلاد من تدهور اقتصادي وتسلط أمني.