الجمعة 29 مارس 2024
فن وثقافة

عبد الصمد الشنتوف: غفوة في باص..

عبد الصمد الشنتوف: غفوة في باص.. عبد الصمد الشنتوف
في مساء الأحد، وأنا أمشي في طريقي على مهل، صادفني كهل طويل القامة بسحنة إفريقية داكنة، كان يحمل على كتفيه صليبا خشبيا ضخم الحجم بدهان أبيض، بدت أسماله رثة، شعره مجعد منفوش، عيناه غائرتان، تفوح منه رائحة عطنة حتى ظننته بوهيميا متشردا.
كان يرتدي معطفا طويلا بلون أسود وقد تجاوز ركبتيه، يمشي ببطء وكأنه مصاب بالسرنمة، اقترب مني وحبات العرق تسيل وتبرق على وجنتيه من ثقل ما يحمل، وقف برهة ينظر إلي وكأنه يتفحص ملامحي، فهز رأسه موافقا على شيء يسرح في مخياله، فجأة صاح في وجهي كالمجنون: " يسوع يحبك"! لبثت صامتا أتبسم في وجهه وكأنني في حيرة من أمري ، لم أرد عليه ولم أكن أعرف كيف أرد . غمغم المسكين بشفتيه ثم تابع سيره صوب شارع "وستبورن غروف" .
كان المبشر يمارس حقه في العقيدة والدعوة على طريقته، ترانيم الإنجيل لا تفارق شفتيه، ينشد تراتيل الكنيسة بصوت عال وقد ارتسمت على محياه ملامح البراءة والفرحة، كان في غاية الانتشاء. لبثت أرقبه من الخلف وهو يسير حاملا صليبه العملاق، فيما أنا كنت أردد في نفسي: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم .
وقفت منتظرا قدوم الباص7 عند موقف الحافلات بعد وهلة قصيرة تسلقته وراح يطوي شوارع ضيقة اتجاه ماربل آرش . أخذت مكاني في عمق الباص مسندا ظهري إلى مقاعد خلفية وقد صار كل شيء على مرمى بصري .
كان الوقت عصرا، الطقس معتدل ، والباص شبه مقفر من الركاب . وقعت عيناي على شاب قصير القامة بعينين متوجستين يعتمر قبعة بيسبول بنية اللون، كان ممسكا بعمود حديدي وسط فناء الحافلة وكأنه يتمسح بجدار ضريح. يقطب حاجبيه، بدا متعبا وملامحه تحمل مزيجا من الحيرة والقلق . أخذ يتثاءب دون توقف واضعا كفه اليمنى على فيه من حين لآخر.
لست أدري لماذا تراءى أمامي الفنان بزيز وهو يروي حكاية مشابهة في حافلة منهكة بالدار البيضاء، كان مسافرا من بورغون إلى الحي المحمدي. وقف مغالبا ترنحه تحت تأثير عياء قاتل استبد به، ذلك أنه تسامر مع رفاقه طوال الليل بإحدى مقاهي المدينة يطردون الضجر. ما إن فتح فاه وشرع في التثاؤب حتى وقف عليه شخص ذميم بوجه عبوس كان يرقبه عن بعد .
- سأله ماذا كنت تنوي أن تقول ؟
انتاب بزيز الهلع واتسعت عيناه من الدهشة جراء سلوك الرجل المستهجن .
فرد عليه :
- شعرت بتعب شديد وتثاءبت ، هذا كل ما في الأمر . أنا لم أتفوه بكلمة .
صعد الرجل من لهجته غير مصدق ما سمع وقال في غضب :
- بل كنت ستعبر عن شيء ما يجول في خاطرك ولما لمحتني تظاهرت بالتثاؤب.
- لكن التثاؤب إفراز طبيعي يطلقه الجسم ، لو انحبس ريح بداخلي أو شيء آخر لأطلقته أيضا.
- يجب أن تعلم أن التثاؤب في فضاء عام بشكل مفضوح ممنوع ومخل بالأمن العام. ماذا سيحصل لو تزامن تثاؤبك مع تثاؤب باقي الركاب في آن واحد، لا شك أن الحافلة سترتج من تثاؤبكم، الأمر معد للغاية، على إحالتك إلى أقرب مخفر لتحرير محضر في هذه النازلة الخطيرة.
- أرجوك سيدي ، أنا لم أخالف قانونا حتى يستوجب الأمر كل هذا الإجراء ، وتجرجرني إلى المخافر.
- على من تضحك يا قليل الأدب ؟ ، لا بد من إقامة كشف عن نواياك كي نستيقن من تلك الأفكار المزعجة التي تسكن رأسك . أنت مواطن مشبوه .
اعتدلت فوق مقعدي، أغمضت عيني وأخذتني غفوة . أتاني في المنام شيخ بوجه منير مثل غيمة طاهرة، تكسو وجهه لحية بيضاء ناعمة الملمس، تبسم لي في حنو، ثم أخرج يدا طويلة وضاءة من تحت جبته وامتدت إلي في سكون، دثرتني بقماش من حرير ، فتح الشيخ المهيب شباك غرفتي ، شعرت بهبوب نسيم رطب هادئ على وجهي .
قلت له :
- ما هذا الهواء المنعش العليل ؟
فرد علي :
- إنها نسائم الحرية هبت على وطنك !
أجبته :
- كيف يحدث هذا ، إنه لأمر عجاب ! .
فرد علي بكل ثقة :
- لم تعد في حاجة للبقاء هنا في لندن ، لقد أصبح بلدك ينعم بحريات عامة ، حقوق الإنسان ورفاه اقتصادي ، أنصحك بالعودة إلى وطنك .
وضعت باطن كفي على ذقني وقد انتابني إحساس فخر جميل . ورحت أفكر مليا فيما أسمع من كلام يصعب تصديقه .
بعد لحظات أفرغ الشيخ على رأسي قربة ماء بارد كاملة، فنهضت جزوعا مذعورا . أصابتني رعشة فائقة، فركت عيني النائمتين ثم نظرت عبر النافذة لألفي الحافلة مركونة قرب "كازينو فيكتوريا" . خرجت من الباص على عجل وغدوت مطرق الرأس شارد الذهن. بينما أنا أسير على الرصيف المزدحم بالمارة اصطدم كتفي بكتف رجل بدين يرتدي عباءة بيضاء وعقال أسود على رأسه، حملقت في وجهه مستسمحا فرماني بنظرات هازئة، التفت حولي فإذا بي أجدني وسط حشد من سواح عرب تائهين، يمشون جيئة وذهابا في شارع إدجوار رود البهيج، حينها علمت أني للتو خرجت من حلم غفوة .