يعتبر "مفهوم العقل" من المفاهيم التي نالت قسطا وافرا من السؤال والإستشكال والتحديدات والتعاريف. أو كما يقال من المفاهيم التي قتلت بحثا ونقدا، نظرا لمركزيته وما يمثله بالنسبة للإنسان لدرجة اعتبر جوهره، كذلك هناك من عرف الإنسان نفسه بكونه "حيوان عاقل". و ربما لو كتب للفيلسوف أو المفكر الذي أطلق هذا التعريف لأول مرة، أن يعيش لمرة ثانية، لراجع تعريفه واستثنى الكثيرين منه أو لأضاف إليه:"الإنسان حيوان كاره العقل أيضا ". فحين نتحدث عن الحيوانات كالنمر أو الحمار أو السلحفاة أ والبط إلخ... فإننا نتحدث عن "اللاعقل" فهي حيوانات غير عاقلة لكنها ليست ضد العقل ولا تكرهه، كما هو حاصل عند الإنسان الذي ينتصب في مرات عديدة ضد العقل ويمارس أفعالا وأعمالا ويحمل معتقدات ضد العقل ،بل في مواقف عديدة تجده يحث على كره العقل ويحارب أصحاب العقول النيرة وإن اقتضى الأمر تصفيتهم وإحراق منتوجاتهم الفكرية.ولنا في التاريخ البشري كما في ممارساتنا اليومية من الأمثلة والتجارب الكثير مما يزكي ذلك .فتاريخ الإقطاع المتحالف مع الكنيسة زاخر بالجرائم البشعة التي مورست واقترفت ،ضد العقل ،ضد العلم والفلسفة وبمحاكم التفتيش والمحارق: قتل وصلب عدد كبير من العلماء والفلاسفة ،إحراق الكتب وتدمير أكبر مكتبة كانت في الإسكندرية.كما لا يخلو التاريخ الإسلامي من أعمال مماثلة مست الفكر المخالف والمفكرين وصلت حد القتل وإحراق الكتب، بل حتى بعض الفقهاء كما المتصوفة لم ينجوا من تلك الهمجية. بمشاركة و مباركة العامة والدهماء والغوغاء (القطيع).ولا بأس أن نستشهد ببعض النصوص التراثية الفقهية في هذا المجال.
قال القاضي أبو يوسف صاحب كتاب "الخراج":" العلم بالكلام جهل والجهل بالكلام علم " طبعا يقصد بالكلام هنا: "علم الكلام" الذي عرفه ابن خلدون ب "علم الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية "*.
وفي نص نسب إلى الإمام الشافعي يقول فيه:" حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل و يطاف بهم في العشائر والقبائل وينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام".*
وقال الذهبي الفلسفة: "من العلوم المهجورة " و"مرض في الدين " وقال ياقوت " حكمة مشوبة بكفر"*.
ومن فتاوي ابن الصلاح الشهرزوري بعد أن سئل عمن يشتغل بالمنطق والفلسفة فأجاب : الفلسفة أس السفه والانحلال ، ومادة الحيرة والضلال ، ومثار الزيغ والزندقة ، ومن تفلسف ، عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المؤيدة بالبراهين ، ومن تلبس بها ، قارنه الخذلان والحرمان ، واستحوذ عليه الشيطان ، وأظلم قلبه عن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، إلى أن قال : واستعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية من المنكرات المستبشعة ، والرقاعات المستحدثة ، وليس بالأحكام الشرعية - ولله الحمد - افتقار إلى المنطق أصلا ، هو قعاقع قد أغنى الله عنها كل صحيح الذهن ، فالواجب على السلطان أعزه الله أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المشائيم ، ويخرجهم من المدارس ويبعدهم،ويعاقبهم على الإشتغال بفنهم ويعرض من ظهر عنه اعتقاده عقائد الفلاسفة على السيف أو الإسلام ....والطريق في قلع الشر قلع أصوله". *
والسيوطي قال نقلا عن ابن تيمية ما قاله في حق ابن سينا وأصحابه:" من أخس الناس علما وعملا وكفار اليهود والنصارى أشرف علما وعملا منهم من وجوه كثيرة .والفلسفة كلها لا يصير صاحبها في درجة اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل، فضلا عن درجتهم قبل ذلك ".*
هذا غيض من فيض مما قيل عن المنطق والفلسفة والعلم والعلماء من طرف فقهاء كارهي العقل.
حين يحكم منطق الجمهور(الكم) والإجماع بعيدا عن كل ما هو عقلي. حين تكون للنصوص سلطة مطلقة بعيدا عن أي فكر نقدي و مسائلة واستحضار لواقع متحول. يزداد الجهل انتشارا ويقل العلم ويهمش العلماء ويطغى دور الوعاظ وتستشري الفتاوى ومنطق الفرقة الناجية يرفع شعار: " أطلبوا التجهيل أينما كنتم" وتشحذ السيوف وتكون النهاية ظلام على ظلام، وهذا ما كان مصير الأمة.
في حوار واقعي بين رجلين من نفس الواحة والعهدة على الراوي. حول ظاهرة طبيعية هي:"ظهور ضفادع في الواحة مباشرة بعد نزول المطر". راح أحدهم يفسر الظاهرة حسب اعتقاد موروث وسائد لذى عدد لا يستهان به من الأهالي مفاده : "أن هذه الضفادع تنزل من السماء مع المطر".ولما سأله الرجل المجادل له : "من أين أتت للسماء ؟" أجابه صاحب المعلومة :" حينما كانت بيضا في البركات و المستنقعات ،صعدت إلى السماء مع البخار واستقرت فوق الغيوم ،وبعدها تحولت من بيض إلى ضفادع وحين تحولت الغيوم إلى ماء فنزل مطرا لحظتها كانت الضفادع هي الأخرى تنزل إلى الأرض".لم يستسيغ الرجل الثاني هذا التحليل و راح يشرح الظاهرة عكس ما قاله الأول، حيث بين له استحالة صعود أجساد صلبة مع البخار في غياب الرياح القوية (العواصف) التي بإمكانها أن تساعد في ذلك، كما سأله : " لماذا لا يقع نفس الشيء مع بيض السمك المتواجدة هي أيضا في هذه البرك والأنهار؟ ولماذا لا تسقط هذه الضفادع لوحدها حين لا تتحول الغيوم إلى أمطار ؟. كما استفسره أيضا عن ظهور العقارب هي الأخرى بعد نزول الأمطار و أساسا في أيام الصيف. توقف الرجل الأول عن الكلام حينما لم يسعفه عقله عن الإجابة عن أسئلة مجادله. بعدها راح الرجل الثاني يشرح له الظاهرة قائلا: "الأمر بسيط للغاية و لا علاقة له بصعود بيض الضفادع إلى السماء مع البخار، بل فقط حينما تنزل الأمطار تخرج الضفادع من مخابئها بحثا عن الماء والرطوبة وبذلك تظهر بكثرة لا غير". وحينما لم يستطع الرجل الأول مجارات تحليلات الثاني ،وتفاديا لبدل أي مجهود عقلي وفكري وإن كان بسيط لإستيعاب الظاهرة، كما التشبث بالموروث ورفض رأي الآخر خصوصا إذا كان جديد ومخالف للمتعود عليه ( معزة ولو طار) أجابه : "من فضلك أرجوك دعني واتركني مع أصحاب العقول التي تقول بأن الضفادع تنزل من السماء مع المطر.
عفوا كأن لسان حال صاحبنا يقول:" أتركوا لنا خرافاتنا، دعونا و أوهامنا، بلا فلسفة، فمن تمنطق تزندق.رجاءا لا تزعجوننا بعلوم عصركم واتركوا عقولنا تستريح ، فما أحلى تقاليدنا وأعرافنا وأساطيرنا .لا منطق في البلد ،لا فلسفة في البلد ،لا علم في البلد ولا إنسان في البلد.معذرة، ليس هناك أي مشترك في العقل الذي تطلبونه ".
هناك قول مأثور يقول :" لو كانت قِلَةُ العقل موجعة لما سمعتم سوى العويل والنواح ".
وكما قال الشاعر الكبير المتنبي :"ذو العَقلِ يَشقَى في النّعيمِ بعَقْلِهِ... وَأخو الجَهالَةِ في الشّقاوَةِ يَنعَمُ" .
ماذا لو صارت أمهاتنا يدعون لنا بأدعية من قبيل :"سير أولدي الله إعطك جائزة نوبل للطب أو الكمياء " أو حتى يدعون علينا حين نقلقهن بدعاء مدهش من شاكلة :"سير أولدي الله إعطك تفاحة نيوتن" أو "سيري أبنتي الله إبليك بنسبية إينشتاين"؟؟ وكل سؤال والأمة بخير.
* هذه النصوص التراثية نقلا عن كتاب:"مصائرالفلسفة بين المسيحية والإسلام "للكاتب جورج طرابشي