الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد القادر زاوي: المغرب والاستفتاء في كل من كردستان العراق وكاطالونيا.. العبر المستخلصة

عبد القادر زاوي: المغرب والاستفتاء في كل من كردستان العراق وكاطالونيا.. العبر المستخلصة

خلال أسبوع واحد تابع المجتمع الدولي استفتاءين لتقرير المصير في كل من اقليم كردستان العراق، ومقاطعة كاطالونيا باسبانيا. وبغض النظر عن المواقف المحلية والإقليمية والدولية إزاء الإستحقاقين معا، فإنهما باتا أمرين واقعين انطلق الجميع إلى تقييمهما ودراسة التأثيرات المستقبلية للأوضاع التي أفرزتها وستفرزها التطورات المرتبطة بهما. وغني عن التذكير أن المغرب من بين أكثر الدول التي وجب ويجب عليها متابعة هذين الإستحقاقين عن كثب، ومواصلة رصد التطورات المرتقبة في المنطقتين المعنيتين، إضافة إلى سبر أغوار مختلف مواقف القوى الدولية والإقليمية من الاستفتاءين معا والتبعات التي أسفرا عنها، ومعرفة الحقيقة الفعلية لهذه المواقف، وليس فقط الاكتفاء بما يصدر من بيانات أو تصريحات.

هذا الواجب لا تمليه فقط روح التضامن مع بلد عربي نشاركه عضوية جامعة الدول العربية التي أدانت استفتاء كردستان، كما لا تفرضه روابط الجوار الجغرافي مع اسبانيا والعلاقات المتشابكة معها في كل المجالات على الصعيد الثنائي أو في إطار مقتضيات اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وإنما نابع من ضرورة التحسب للمستجدات والأبعاد التي قد يحاول البعض جر موضوع الوحدة الترابية للمملكة إليها، ومنحه زخما أكبر مع أمين عام جديد للأمم المتحدة ومبعوث شخصي جديد له. وهذا ما يحتم على المتابعة المغربية أن تكون شاملة ودقيقة سواء تعلق الأمر بالإجراءات المسطرية التي جرى الاستفتاءان على هديها أو بالتداعيات التي فجرتها نتائجهما النهائية.

1/ ليس مهما أن يكون الاستفتاءان قانونيين ومنسجمين مع قواعد القانون الدولي أم لا، فالأخطر فيهما هو تكريس الممارسة الاستفتائية كإجراء عملي وحيد لحد الآن للتعبير عن ممارسة مبدإ حق تقرير المصير، ثم الإقدام على تنفيذها بالاستناد إلى إرادة شعبية لم تأبه لما تشكله من مخالفة للقواعد الدستورية في كل من العراق واسبانيا، ولم تكترث لمواقف عدد من المنظمات الإقليمية والدولية.

لقد جرى الاستفتاءان في منطقتين تعتبرهما الأمم المتحدة جزءا لا يتجزأ من تراب الدولتين المعنيتين، وهو ما لا ينطبق على وضعية الصحراء المغربية التي لا تزال بالنسبة للمنتظم الدولي أراضي متنازع عليها. وهنا مكمن الخطورة، خصوصا وأن الاستفتاء كان مطروحا بقرارات أممية كوسيلة لفض النزاع حول الصحراء. وقد قطعت أشواط عديدة في الطريق إلى تنفيذه لو لم يبادر الخصوم إلى عرقلته.

ورغم أن الأمم المتحدة هي من ارتأت صعوبة تطبيق الاستفتاء في أقاليمنا الجنوبية إثر فشل لجنة تحديد الهوية في إنجاز مهمتها بسبب تعنت شيوخ الطرف الآخر ورفضهم المنهجي لمعظم اللوائح المغربية ؛ فإن كثيرا من خصوم الوحدة الترابية للمغرب لا يفوتون أي فرصة للدفع في اتجاه العودة إلى مساره. ومن غير المستبعد أن يلجأ بعضهم إلى الاستشهاد بما حصل في كردستان وكاطالونيا باعتبارهما نموذجين قابلين للاحتذاء، أو يقوم البوليزاريو بإجرائه على سبيل الاستفزاز في داخل مخيمات العار وفي المناطق العازلة التي يتوهم أنها محررة، في سعي منه إلى اختلاق وقائع جديدة أملا في التأثير على المقاربة التي يعتزم المبعوث الشخصي الجديد للأمين العام الأممي بدء الاتصالات في المنطقة على أساسها.

إن الحذر مما سبق لا ينبغي أن يحجب عنا أن الاستحقاقين بالطريقة التي أجريا بها قد رسخا معطى مهما في الممارسة الاستفتائية، ألا وهو حق كل سكان الإقليمين في الإدلاء بأصواتهم دون إثارة موضوع انتماءاتهم العرقية، فلم تشكل لجان لتحديد هوية من تحق له المشاركة أو لا تحق، وإنما فتح الباب لجميع السكان الحاملين للجنسيتين الاسبانية والعراقية من المقيمين بصفة قانونية في الإقليمين بمن فيهم المجنسون. ولا شك أن هذا المعطى يمكن به في حالة أقاليمنا الجنوبية وعند الضرورة دحض فكرة حصر المشاركة على المنتمين  لهذه الأقاليم.

2/ رغم الرفض القاطع من السلطات المركزية العراقية والاسبانية لإجراء الاستفتاءين في حد ذاتهما، ورغم عدم تحمس المجتمع الدولي لهما (باستثناء ترحيب الدولة العبرية باستفتاء كردستان العراق)، فإن أحدا لم يطعن في صحة الاستفتاءين بالتزوير وفي النتائج المعلن عنها، وخاصة التصويت لفائدة الاستقلال بنسب تجاوزت 90%. ولذلك صعب على الرافضين محليا وإقليميا استخدام القوة المفرطة للتصدي إلى هذا المعطى الجديد، باستثناء محاولات محدودة لعرقلة تنظيم الاستفتاء في كاطالونيا، وفي بعض مراكز التصويت.

لقد أصبح الاستفتاءان واقعا لا مجال لإنكارهما، وكل الدعوات المطالبة بإلغائهما واعتبارهما كأنهما لم يكونا هي مجرد تسجيل مواقف مبدئية ليس إلا. ونظرا لوعي القيادات التي دعت إلى إجرائهما ونظمتهما بعدم وجود أي دعم دولي ذي وزن لخطواتهما، سارعت إلى التجاوب مع مختلف دعوات المطالبة بالحوار وتجميد الخطوات الانفصالية، سيما بعد استشعار خطورة الضغوط الاقتصادية والمالية التي فرضت عليهما من الحكومات المركزية ومن دول الجوار الإقليمي، وخاصة في كردستان حيث أن كل الدول المجاورة التي لها أقليات كردية خشيت من تمدد النزعة الانفصالية لها، وبادرت إلى التنسيق لتنفيذ نوع من الحصار الاقتصادي والمالي والتجاري، بل والتهديد باستخدام القوة.

هكذا يبدو أن التوجه العام للتطورات ينحو في طريق الحوار.، الذي يبدو أن اطرافا عديدة محلية وإقليمية ودولية تدفع في اتجاه تبنيه، وأن يسفر عن إجراء إصلاحات دستورية وقانونية توسع صلاحيات واختصاصات أقاليم الحكم الذاتي، التي قد تصل في حالة كردستان العراق إلى إقرار نظام كونفدرالي مرن (كيانان في دولة واحدة) تحتفظ فيه السلطة المركزية بسيادة اسمية رمزية ممثلة في الشؤون الخارجية وبعض المهام الدفاعية لصعوبة تقبل إدماج قوات البشمركة الكردية في الجيش النظامي.

إن حلولا كهذه تبدو الآن في ظل تشنج المواقف بعيدة المنال، ولكنها ستغدو نموذجا في المستقبل القريب لحل الكثير من النزاعات الترابية المرتبطة بوجود نزعات قومية وعرقية قوية، وفي مقدمتها تلك النزاعات التي دخلت دواليب الأمم المتحدة، وعمرت طويلا باعتبارها نزاعات مجمدة (كشمير، الصحراء المغربية، قبرص الشمالية، ناغورنو كراباخ...).

3/ لم يكن مفاجئا أن يسفر الاستفتاءان عن نجاح فكرة استقلال كل من كردستان الجنوبية عن العراق وكاطالونيا عن اسبانيا وبنسب عالية جدا رغم تباين نسبة المشاركة. ففي كل التجارب السابقة لاستفتاءات تقرير المصير عبر العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية انتهى الأمر إلى نتائج مماثلة باستثناء استفتاء جزيرة مايوت التي فضل سكانها البقاء تحت السيادة الفرنسية على الانضمام إلى جزر القمر.

ولهذا، لم تعد الممارسة الاستفتائية محط ترحيب من قوى ومنظمات عديدة في المجتمع الدولي، والفرصة مواتية للدفع في هذا الاتجاه ليس فقط من الناحية السياسية والدبلوماسية، وإنما من الناحية النظرية على مستوى قواعد القانون الدولي.

أ) من اللازم على المستوى السياسي والدبلوماسي عدم التسرع لتجنب بعض المواقف غير المحمودة العواقب مثلما لوحظ فيما يلي:

/ تأكيد مواصلة النظر في قضية الصحراء المغربية على مستوى الجمعية العامة للأمم المتحدة من خلال لجنة تصفية الاستعمار أو ما يسمى اللجنة الرابعة. فالمطالبة بتطبيق مقتضيات الفصل 12 الفقرة أ من الميثاق الأممي كان يجب الإعداد لها جيدا في الكواليس وفي العواصم العالمية قبل الإقدام عليها لأن خصوم المغرب لديهم على الساحة الدولية صفتان "الجمهورية" في الاتحاد الإفريقي ثم "حركة تحرير" بالنسبة للأمم المتحدة وبعض المنظمات الإقليمية، ومن الصعب سحب الصفتين معا عنهما مرة واحدة.

/ لقد كان من الأجدى أن يقف البلاغ الخاص بالتطورات في كاطالونيا عند رفض الانفصال بطريقة أحادية، وألا يتحدث مطلقا عن وحدة الأراضي الاسبانية. فهذه الوحدة في مفهوم الإسبان تشمل سبتة ومليلية، ناهيك عن أن اسبانيا لم تعترف لحد الآن بمغربية الصحراء، ولم تعلن أن الحكم الذاتي المقترح هو الحل الأمثل والأوحد للنزاع المفتعل حولها رغم أنها اكثر القوى الدولية دراية بحقيقة الموضوع.

ب) إن المجهود السياسي والدبلوماسي لن يحقق المرجو منه، ولن يكسؤ الحلقة المفرغة التي تدور فيها قضية وحدة المغرب الترابية ما لم يقترن بمجهود موازي بل وأكبر على صعيد قواعد القانون الدولي. إن مبدأ الحق في تقرير المصير ترسخ سياسيا منذ إقراره بالتوصية 1514 للجمعية العامة للأمم المتحدة، وأخذ صفة القاعدة القانونية العرفية مع تواتر الإشارة إليه، والتأكيد عليه في العديد من أحكام محكمة العدل الدولية وآرائها الاستشارية. إن الرأي الاستشاري الصادر سنة 1974 بعدم اعتبار الصحراء المغربية أرضا خلاء وبأن لسكانها روابط بيعة مع سلاطين وملوك المغرب تضمن التنصيص على ذلك المبدإ.

تحتم هذه المعطيات ضرورة مشاركة المغرب في الجهود والأبحاث العلمية لبعض المهتمين بقضايا القانون الدولي والعلاقات الدولية الذين نادوا باستبعاد عدد من المفاهيم المتقادمة من التداول، ويقف على رأس هؤلاء الأستاذ ريتشارد هاس الذي دافع مؤخرا من على منبر مجلة Foreign Policy عن سحب "حق تقرير المصير" من التداول السياسي والدبلوماسي لانتفاء الحاجة إليه بعد أن أصبحت المطالبة به مصدر خطر ليس فقط على الدولة المهددة بالتفتت، وإنما على دول جوارها الإقليمي وعلى الاستقرار العالمي.

رهانات كبيرة حبل ويحبل بها هذان الاستفتاءان، للعديد من البلدان، وعلينا في المغرب أن نكون في مستوى الرهان.