الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

الهاشمي نويرة: في تفشّي «الغباء المدنيّ».. والسّياسي!

الهاشمي نويرة: في تفشّي «الغباء المدنيّ».. والسّياسي!

اعْلَمُوا أَعَزَّكُم اللّه، أنّنا بَلَغْنَا في الدّيمقراطية مراتب عُلْيَا لَمْ تَصِلْهَا أَعْرَقُ الديمقراطيات في العالم الحرّ والمستعبد على السّواء.

إذْ يَحْدُثُ في بلادنا أَنْ يَتَطَاوَلَ الصّغير على الكبيرِ ويَقْبَلَ الكَّبيرُ بذلك خَُضُوعًا لمَنْطِقِ الديمقراطية،وفي بلادنا كذلك، يَمَّحِي الخَبِيرُ ويَنْتَصِبُ الجَاهِلُ مُلَقِّنًا العَامَّةَ، بَلْ إنّ هَذَا الجاهلَ المُبْتَدِئَ في السّياسةِ والحُكْمِ يتراءى له أنّه حَكِيمُ زَمَانِهِ إمّا لأنّه وَاقِعٌ تحت تأثير سيّئٍ لزَبَانيّة محيطة به، أوِ لَمَرَضِ النّرجسّية الذّي اسْتَبَدَّ بِه، ويضطرّ الكَبِيرُ الخبيرُ العَارِفُ العَالِمُ بالشّيء الى تَرْكِ ما عرفهُ وعَلِمَهُ وجرّبهُ وذلك إنْجَاحًا للمسار الديمقراطي !

في تونس يحدث إذن أن يتبوّأ السّفِيهُ مكانة «رفيعة» في الفضاء العمومي ويصبح صاحب قَوْلٍ فَصْلٍ في الشأن العام وتَرْفَعُهُ مَوْجَةُ الجهل الجارف إلى «أَعْلَى عِلّيين» وفي المقابل يتدحرج العَاقِلُ العالمُ العارفُ إلى «أَسْفَلِ السّافلين» بكلّ ما تحمله الكلمة مِنْ مَعَانٍ مُتعدّدة.

ومناسبة هذا القول ما تفوّهَ به كتابةً القيادي في «نداء تونس»، بحسب آخر محطّة حزبية له، خالد شوكات على أعمدة صحيفة «الشروق» تجاه الناطقة باسم مؤسسة الرئاسة سَعيدة قراش.

وإذْ «نتّفق» معه في أنّه من شروط استباحة الحُكْمِ والدّولة، تدحرج السياسة الى القاع وهيمنة حروب الطوائف الايديولوجية على الواقع المعيشي والمشهد السّياسي وهذا لا ينطبق بالطبع على سعيدة قراش، فإننا نعتقد أنّ مِنْ أبسط قواعد الأخلاق والسّياسة أن لاَ يَنْهَى المَرْءُ عَنْ شَيءٍ ويأْتِي بمِثْلِهِ.

وبالرّجوع إلى مسألة «تدحرج السياسة إلى القاع» فإنّنا عاينّا ونُعاين أنّ عناصر الخراب السّياسي اكتملت أو هي بصدد الاكتمال.

مشهد سياسي وحزبي «استوطن» فيه «الحفاة العُراة» في السياسة وفي تسيير الشأن العام، وعَمّ فيه الجَهْلُ والحِقْدُ وعَمَى المعاني حتَى أنّ هذه «الخِصَال» تكاد تُصْبِحُ مِنْ شُرُوطِ التّواجُدِ في الحُكْمِ وفي الفضاءات العمومية.

خطاب سياسي وحزبي هو خطاب الحدّ الأدنى المعرفي وفيما عدا ذلك فهو خطاب مفتوحٌ على كلّ أنواع الوقاحة الايديولوجية والانتهازية والثأرية والسياسويَة والثورجية مِنَ اليمين ومِنَ الشِّمَالِ.

وأخطر ما في الأمر هذا الخطاب «السياسي» في شكله والذي جوهره الأساسي «أخلاقي ديني» في بَعْض أو أغلب الأحيان، وذلك برغم أنّ «القشرة» الظاهرة للخطاب هي "مدنيّة".

بدا مِنَ الواضح أنّ البعض لم يقبل بَعْدُ بتنظيم المجتمع والدولة على أساس مدني وضعي، وهُمْ لذلك قبلوا عَنْ مَضَضٍ بالدستور على نقائصه لأنّه يبيح «محظور» حرّية الضمير كما يعتقدون، وهم أيضا لم يقبلوا بَعْدُ بفَصْلِ الدّيني عن السياسي وإنْ قَبِلُوا ذلك فإمّا مِنْ باب المناورة أَوْ هُمْ فوّضوا أَمْرَ التَشّبُّثِ بهذه «العقيدة» إلى وَكَلاء مِنْ "خارجهم".

وبعض هؤلاء الوكلاء فاق شيوخَهُ في التطرّف بخطابه والانصهار به في رؤية مُنْغلقة وهي تعيش معاناة رفض الواقع ومَرَارَةَ القبول ببعض «الحرّية الكافرة»، وهم لذلك يرون في إقرار الدستور التونسي قبولا ضمنيّا «بازدراء الدين والاستهزاء بالمتدينين وبمعتقداتهم وبالعناية الربّانية» وهذا ما رآه شوكات وما قرأه في نصّ الدستور وهو القيادي في حِزْبٍ مدني، وهو وِفْقَ هذا التّأويل للنصّ الدستوري أعطى الحقّ للمواطن في ازدراء الدين ـوليس الأديان وهذه أيضا لها مدلولهاـ هذا تأويل شوكات لأنّه يرى في حريّة الضمير سبيلا موصلة الى ازدراء الأديان.

وليس مِنَ الابداع في شيء معاينة أن هؤلاء الوكلاء مبثوثون في كلّ مكان وداخل جلّ الأحزاب، وبالنتيجة فانّهم انتشروا ولَبِسوا عباءات أحزاب أخرى ولكنّهم في واقع الأمر استمرّوا على «عَمَائِهِمْ المدني» وهُمْ لِذَلك مُصِرُّونَ على اعتبار أنّ العمل السّياسي لا يستقيم إلاّ بوجود خلفية «دينية أخلاقية» تمثّل أساس وبداية كلّ عَمَلٍ سياسي وكذلك هي مُنْتهى وغاية كلّ عَمَلٍ.

وحيث تَرَكَ أصحاب دَارِ الجمع بين الدين والسياسة هذا الأمر لأسباب قاهرة ومعلومة أو لأسباب تكتيكية تشبث بها مَنْ هَجَرَ «دار الاسلام السياسي» ورَحَلَ عنها بحثا عَنِ الرّزق والسّلطة في أماكن أخرى.

هؤلاء «المهاجرون» والرُّحّل حملوا معهم فيما حملوه أشدّ الخطابات تطرّفا وتشبّثا بالعامل الديني كأحد أَرْكَانِ وأُسُسِ العمل السّياسي، خالد شوكات مثالا ...

هذا الرّجل امتلك قدرة عجيبة ومثيرة على تغيير محطاته السياسية والحزبية فهو انتقل مِنْ تبنّي الإسلام السياسي وتمظهراته الحزبية إلى فترة تأمّل وفَرَاغٍ لا نريد الخوض في تفاصيلها الى «المَجْدِ» فـ «الحرّ» فـ «النّداء» ولكن تحسب له في كلّ ذلك «فضيلة» الثبات على مواقفه الأولى ، فهو كان شرسا في الدفاع عن الشريعة كمرجعية لتنظيم الحياة المجتمعية والسياسية وهو كان مِنْ أشدّ المطالبين بإدخال الرّافد الديني لمجموع الروافد المكوّنة لحزب نداء تونس.. ويُعاب عليه تَشَنُّجُه واحتداد نقاشه كلّما تعلّق الأمر بهذه المسائل الدينية وخصوصا اذا كانت مَنْ تُحَاوِره امرأة، سعيدة قراش ورجاء بن سلامة على سبيل المثال.

وهذا التشنج غالبا ما يكشف عورات الرّجل الايديولوجية ويضعه بالتالي في خانة الواعظ في غير محلّ الوَعْظِ، وانّ أخطر ما أتاه هو توزيعه «للفتاوى» والتأويلات الخبيثة التي قد تصل الى حدّ إباحة دَمِ المخالفين له ومِنْ ذلك اعتبارُ التعرض له في معرض حديث سعيدة قراش عن طبيعة دفاعها عن مؤسّسة الرئاسة، هو استهزاء بالعناية الربّانية وهو الأمر الذّي نحسبه قمّة الغُلُوِّ والنرجسية والتطرّف، وإنْ كان اعْتَبَرَ أنّ التعرّض لشخصه هو استهزاء مباشر وأنّ "الاستهزاء بالعناية الربانية هو اشتقاق".

وإنّ هذا الانتصاب الفوضوي «للمفتين» في السياسة وفي الدين هو ضرب مباشر للتنظيم المدني للدولة والمجتمع ولدولة القانون والمؤسّسات وانتهاك فاضح للدستور وللمبادئ الأساسية لحقوق الانسان.

وفي علاقة بسعيدة قراش ليسمح لي زميلها في نداء تونس خالد شوكات أن أفيده ببعض المعطيات ...

.. سعيدة هذه يا «صديقي» صاحبة عِلْمٍ ومَعْرِفةٍ ونِضَالٍ وكفاءة وأخلاق.. ونحن نَفْهَمُ أنّ البعض الذي كان يعيش في عزلته الايديولوجية أو هو تغيّب عن هذه الأرض قد تُحجبُ عنه بعض المعطيات كان عليه تداركها قبل البدء في «سمفونية القدح والذمّ» ونحن في كلّ الحالات لا نعتبر مجرّد الانتماء إلى أطياف الاسلام السياسي يشكّل في حدّ ذاته مسيرة حافلة فضلا عن الترحال بين أطياف حزبية أخرى ...

وانّ شحن الخطاب بالمسائل الأخلاقوية التي لا تُعير اهتماما لقدسية حرّية الفرد هو طريق مؤدِّية الى الاستبداد والتخلّف.

وإنّ الواضح من خلال انتشار شوكات وأمثاله في الفضاء السياسي بشكل عشوائي، هو أنّ تونس تدفع الثمن الباهظ لفترة تعطّلت فيها ملكات الفرز السياسي والفكر وهذا أمر يجب أن يُتَدارَك آجلا أو عاجلا.