بعد الإقامة المريحة بحمد الله بالمدينة المنورة، وزيارة معالمها المسنونة، طفنا على المعارض العلمية المحيطة بالمسجد النبوي، وهي من الإنجازات الثقافية التي تستحق الإشادة، ذلك أن الاضطرار إلى التوسعات المتعاقبة للمنطقة المركزية للمدينة أت على آثار كثيرة، الأمر الذي حتم التفكير في حفظ ذاكرة المدينة ولو عبر إقامة معارض ومتاحف دائمة..
وقد كان معرض الداودية جامعا لقدر من الصور والعروض المتعلقة بالتطور العمراني للمدينة وجرد لآثارها... والآن انضاف إليه معرض أسماء الله الحسنى المعد بطريقة احترافية، ويليه معرض السيرة المعنون بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرض القرآن الكريم؛ وهي معارض في جنبات المسجد النبوي الغربية والجنوبية، وهناك معرض يعرف بالتطور العمراني للمسجد النبوي الذي لم يفتح بعد ومثله معرض الحرمين الشريفين، فضلا عن مكتبة المسجد النبوي العامرة، والتي تغري زيارتها بالقراءة لما توفره من وسائل بحث وترتيب وفهرسة جيدين، مع قاعة مطالعة فسيحة تحيط بها رفوف الكتب في كل التخصصات العربية والشرعية مع وجود قسم للغات...
هيئة تطوير المدينة المنورة تواصل أشغالها بوتيرة متسارعة، فبعد كل زيارة يلحظ الوافد الجديد هدفا وإنشاء، فمثلا جعلت مواضئ ملتصقة بالحمامات في ساحات المسجد النبوي الشريف، واستكمل نصب مظلات فيها، مع توسيع شبكة المراوح التي تنثر رذاذ الماء تلطيفا للجو... كما بنيت قاعة صلاة ملحقة في الساحة الغربية لمسجد قباء، وشيد مسجد كبير بمنطقة شهداء أحد...
واستمرارا في تنفيذ مشروع التوسعة السعودية الثالثة تتواصل أعمال الإنشاء لبناية ضخمة شرق المسجد النبوي تمثل توسعة لها تجنبا للبناء العمودي عليه، وستمتد التوسعة الجديدة على مساحات شاسعة بعدما تمت إزالة أحياء تضم مساكن فردية وعمائر وفنادق وأسواق بكاملها، في الجهات الأربع تقريبا... وتتحدث أنباء عن امكانية توسيع بقيع الغرقد شرقا...
من الملاحظات الجيدة تحقق السيطرة التامة على نظافة المسجد ومرافقه وساحاته...
يجدد بعض الزوار السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بين الفينة والأخرى، ولا يبالون بالزحام، وزيارة السلام بالنسبة للرجال سلسة متواصلة خلافا للنساء اللواتي تحدد إدارة المسجد أوقاتا وتقيم سواتر لممرهن من مصليي النساء شمال شرق وشمال غرب المسجد، وغالبا ما تكون بعد صلاتي الظهر والعشاء، وعند زيارتهن يقع زحام شديد مقترن بالتأثر البالغ حد إحداث أصوات ولغط يتجاوز الغرض، على ما حدثتني به إحدى الزائرات...
اختار دائما تجنب الزحام، وأحب التيسير في التعبد، وقد هالني تدافع المصلين بل هرولتهم إلى الروضة الشريفة التي بين القبر الشريف والمنبر، وسألت نفسي كيف سيكون واقع الأمة لو أن أفرادها وجماعاتها يندفعون بحماس للأعمال الفاضلة وتلمس أوجه البر في المجتمع، اندفاعهم إلى المواضع الفاضلة كالروضة والحجر الأسود؟؟
جالست بعض المواطنين والمقيمين فضلا عن الزوار، وطبعا تأخذنا أوضاع الأمة إلى الانتقال من موضوع لآخر، دون القدرة على بلورة تصور واحد أو على الأقل متقارب من تلك الموضوعات... والحديث المسيطر هو كيفية تعامل السلطات السعودية مع الآثار التاريخية والدينية في مكة والمدينة، وكيف يتم الاصرار على طمس الهوية التاريخية، من خلال دوام الهدم وإنشاء بنايات جديدة لا تستفيد بالضرورة من فنون العمارة الإسلامية في أطهر أرض الله..
ومما يؤسف له أن ثقافة المتاحف والمعارض الدائمة لا شيء يوحي بأنها موجودة لدى أصحاب القرار... نعم قد نتفهم الحاجة إلى توسعة الحرمين بما يؤهلهما لاستيعاب الأعداد المتزايدة بحمد الله من الحجاج والزوار، لكن ليس من المعقول التمادي في عدم تأسيس متاحف تضم مجسمات مع الصور لكل موقع أثري اقتضت المصلحة التصرف فيه، ولم لا تكون هناك عروض تجمع التسجيلات والفيديوهات المتعلقة بالحج وزيارة المدينة؟؟
ذكر لي أحد المهتمين أن من المفارقات اهتمام السلطات بالتعريف بتاريخ تأسيس الدولة السعودية، وربما هيأت معارض لذلك!! والواجب المتعين في هذا العصر العمل على إحداث متحف منوع يستعرض تاريخ مكة والأحداث التي شهدتها مع تبيان تطور العمران بها، ونفس الأمر بالنسبة للمدينة المنورة التي سجل تاريخها بمداد الفخر أحداثا جليلة كانت وراء انتشار رسالة الإسلام...
آن الأوان لتطوير المحاولة التوثيقية الخجولة التي أنتجت أفلام وثائقية من مثل سلسلة مساجد لها تاريخ، ونفس الأمر يتعلق بتوسيع مشرع المعرض الذي كان بمتحف الداودية بالمدينة... فأجيال المسلمين لهم حق في حفظ تاريخ الحرمين، والتفنن في تقديمه للعالمين، فهو تراث ليس ملكا للسلطات الوصية على الحرمين، بل هو ملك للأمة الإسلامية وأجيالها المقبلة، وقد يصح القول بأنه ملك للإنسانية لأن هذا الدين رسالة للعالمين...