تنام على موقف وتصحو على موقف آخر، هذا هو واقع حال الدبلوماسية الإسبانية التي لم تعـد سفينتها تستـقـر على حال، ويبدو أن الموقف التاريخي الأمريكي القاضي بمغربية الصحراء، قد أدخل الجارة الشمالية في حالة من الارتباك واللخبطة والتيهـان، وتورطها في فضيحــة "بن بطوش" معناه أنها لم تستوعب بعـد، ما بات عليه المغـرب من قــوة على جميع المستويات، وبدل التفكير في الخروج من عنق زجاجة الفضيحة الكبرى بشكل يحفظ ماء الوجه، لجأت وتلجأ إلى سياسة الهروب إلى الأمام لإخفـاء جوهر المشكل الحقيقي، تارة بمحاولة إقحـام الاتحاد الأوربي في قضية هو بـرئ منها، وتارة ثانيــة بتوجيه الأنظار نحو أحداث سبتة المحتلة وربطها بمحاولة ابتزازيـة للمغرب، وتارة ثالثة تؤكد على أهمية المغرب كشريك قـوي، وتـارة رابعة تؤكد على عدم تغيير موقفها بخصوص قضية الصحراء المغربيـة، وأنهــا لا تقبـل الابتـــزاز المغربي، وتارة خامسة تلعب بورقة اتهام المغرب بدفعـه لمهاجرين سريين قاصرين نحو سبـتة المحتلة وبمطالبته بالتعامل باحترام.
وعلى امتداد هذه المواقف المتضاربة، ظلت الدبلوماسية المغربية المتبصرة، متشبثة بمطالبة الإسبـان بتقديم توضيحات فيما جرى، وبإخضاع المدعو "محمد بن بطـوش" للمحاكمة بناء على ما ينسب إليـه من جرائم مرتبطة بالإبـادة وجرائم ضد الإنسانية وجرائم تشكل مساسا جسيما بحقـوق الإنسـان، بل ونبهــت الإسبـان من إمكانيـة تهريب المعني بالأمر من التــراب الإسباني، وإذا ما حاولنا عد خرجات الدبلوماسية المغربيـة، نجدها علـى رؤوس الأصابـع، لكنها كانت على جانب كبيـر من الفعالية والنجاعة والقــوة، مما جعلها تدخل الحكومة الإسبانية في حالة من الارتبـاك والتيهـان واللخبطة، لتضطر على مضض، إلـى قبول مثول "بن بطوش" إلى المحاكمـة وإن كانت "عن بعـد"، لينقلب بذلك السحــر على الساحر، بعدما وجدت إسبانيا نفسهـا وجها لوجـه، أمـام فضيحـة كبرى مست بصورتها وسمعتها كدولـة، وأحرجت سلطتها القضائيـة، وجعلت القيم التي تأسس عليها الاتحاد الأوربي موضوع ســؤال.
ولعل نفس السحر انقلب على السحرة الشرقيين أو سحرة "آل بطوش"، الذين راهنوا بغبـاء -قبل أشهـر- على افتعال أزمة الكركرات، لكن المغرب حسم اللعبة الحقيرة مبكرا، وحقق قفزة دبلوماسية كبرى غيرت السياق الجيوسياسي في المنطقة باعتراف أمريكي تاريخي بمغربية الصحراء، رفع من جرعات الحزم والصرامة في التعامل مع المناورات والاستفزازات والحماقات على مستوى الحدود، وراهنوا على المغضوب عليه "بن بطوش" بتآمر مع الإسبـان، فكشف المغرب عنوة عن سوءة المتآمرين أمام العالم، حاولوا جميعهم أن يمارسوا طقـوس السحر أمام المغرب، ولم يعلموا أن المغرب يبطل السحر ويجيد قـراءة الفنجان.
وإذا ما تركنا السحر والسحرة جانبا، فما هو باد للعيان، أن الحكومة الإسبانية الغارقة في وحل الفضيحة الكبرى، رضخت تحت الضغط الدبلوماسي المغربي، لمطلب محاكمة المجرم المدلل لكبرانات "آل بطوش" عبر تخريجة "المحاكمة عن بعد"، في خطوة أو مناورة تحكمت فيها بدون شك، الرغبة في جبر خواطر المغرب، وفي نفس الآن الإبقاء على الحبل الســري قائما مع شركاء المؤامرة ''البطوشية"، ونــرى في هذا الصدد، أن "المحاكمة الهيتشكوكية" لن تزحزح الأزمة ولن تذيب جليد الخلاف، لأن أزمة الرباط ومدريد تتجاوز حدود المحاكمة وتتعـدى حدود المجرم المدلل "بن بطوش" الذي لم يكن إلا تلك النقطة التي أفاضت الكأس، وإذا قيل "كل نقمة وراءها نعمة"، نقول اليوم أن "نقمة بن بطوش" هي "نقمة" للسحرة الذين حبكوا المؤامرة الحقيـرة من وراء حجاب، و"نعمة" للمغرب الذي كشف النقاب عن الوجه الحقيقي للإسبان الذين ظلوا على الدوام، أوفياء لمواقف العداء الخالد للمغرب ولوحدته الترابيـة ومصالحه الاستراتيجية، وهي مواقف متضاربة تماما، فمن جهة تحرص مدريد على الشراكة مع الرباط بما يضمن خدمة مصالحها الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية، ومن جهة ثانية تضع يدها في يد خصوم وأعداء الوطن وتصر على عدم تغيير موقفها العدائي من قضية الصحراء المغربية دون اعتبار لمتغيرات السياق الجيوسياسي، بل أكثر من ذلك، فهي ترفع فيتو "الانفصال" في وجه المغرب وتحتضن شرائـح واسعة من انفصاليي البوليساريو فوق أراضيها لاستفزاز المغرب والتشويش على وحدته الترابيـة، وفي نفس الآن، تصد بقــوة "باب الانفصال" فوق أراضيها.
وعلى الرغم من هذه المواقف غير المسؤولة، ظلت الدبلوماسية المغربية محتفظة بما يكفي من التعقل والرصانة والثبات، وكان بإمكانها أن تنخرط في معركة الاستفزاز والتآمر والعداء، بتأييد مواقف الانفصال في إسبانيا وتحديدا في كاتالونيا، واستقبال قادة الانفصال فــوق التراب المغربي، لكن المغرب لم يفعل، لأنه يراعي مبادئ حسن الجوار ويتبنى قضايا الوحدة والأمن والاستقرار والتعاون، ويلـتزم بكل وضوح وشفافية ومصداقيـة بما يجمعه بشركائه الأوربيين والإسبان بشكل خاص، من شراكة وتعاون وفق رؤيـة شمولية ومتكاملة غير قابلة لمنطق الانتقـاء، وإذا كان المغرب لم يلجأ إلى إشهار أوراق من هذا القبيل، فهذا لم يمنـع ولن يمنع من إشهارها مستقبـلا، وربما إشهار أوراق أخرى كثيرة، تكفي لكبح جماح العداء الإسباني الخالد للمغرب والمغاربة، وإرغام الإسبان على طرح أسئلة الاستفزاز والمناورة والمؤامرة والعنصرية والاستعـلاء.
الخارجية المغربية وعشية مثول "بن بطوش" أو "ابراهيم غالي" أمام القضاء الإسباني يوم الفاتح من شهر يونيو الجاري، أصدرت بلاغا، وجهت من خلاله ضربة ناعمة تحت الحزام للحكومة الإسبانيـة، بأن وضعت النقط على الحروف، بالتأكيد أن الأزمة بين المغرب وإسبانيا "غير مرتبطة باعتقال شخص أو عدم اعتقاله"، بل لها جذور شائكة مرتبطة في شموليتها بالمواقف العدائية لإسبانيا، فيما يتعلق بقضية الصحراء المغربيـة التي تعد قضية مقدسة عند المغاربة قاطبة، وإذا ما أردنا أن نفكك شفرات الموقف المغربي، فلا يمكن إلا أن نتوقف عند انهيار الثقة بين البلدين الجارين، على خلفية تورط الحكومة الإسبانية في مؤامرة "بن بطوش" التي لا يمكن فهمها أو تصورها، إلا داخل نطاقات العداء والابتزاز والتآمر والتحرش والحقد والكراهية والاستفزاز، بعيدا كل البعد عن قيم المسؤولية والالتزام والصداقة والتعاون وحسن الجوار، لذلك، فالأزمة مستمرة وستستمر مع إسبانيا -لا مع الشعب الإسباني الصديق- في ظل تمادي بعض المسؤولين الإسبان في إنتاج مواقف العداء دون خجل أو حيــاء.
الذي تآمر مع أعداء وخصوم الوحدة الترابية، وقبل استقبال مجرم حرب فوق التراب الإسباني في استفزاز صريح للمغرب ووحدته الترابية، والذي مازال مصرا على تبني موقف معاد لقضية الصحراء المغربية دون أي اعتبار للواقع الجيوسياسي الجديد، ودون استحضار لقيم الصداقة ومبادئ حسن الجــوار، وعلى انتهاك القانون والقضاء، والتضحية بما يربطه بالمغرب من شراكة استراتيجية، مقابل تدبيـر مؤامرة تهريب واستقبال مجرم يرفع السلاح في وجه المغرب ويهدد سلامة أراضيه ووحدة ترابه، فلن يكون إلا جارا "غير مسؤول" و"غير موثـوق" بتصرفاته وادعاءاتـه والتزاماته وتعهداته، وفي هذا الصدد، تتأكد مرة أخرى نجاعة الاختيارات المغربية، التي راهنت على توسيع قاعدة الشركاء والحلفاء بعيدا عن الجيران التقليديين في أوروبا وفي مقدمتهم إسبانيا، بشكل تحول معه المغرب إلى قوة إقليمية ذات ثقل دبلوماسي واقتصادي، باتت مصدر قلق وإزعاج للجيران الإسبـان الذين مازالوا مصرين على رفع شعـار "طارت معزة"، رغم متغيرات السياق الجيوسياسي، الذي يفرض شجاعة التغيير وجرأة تغييـر المواقف.
ونتصور أن تزداد العلاقات الدبلوماسية بين الرباط ومدريد تأزما في المدى القريب على الأقل، لأن "المحاكمة البطوشية" -التي انطلقت يوم الثلاثاء الفاتح من شهر يونيو الجاري- لن تكفـي مدريد، لا لحفظ ماء الوجه ولا لإعادة بناء صرح الثقـة المفقودة مع الرباط، ما لـم، تنزل من برج الغطرسة والعداء والاستعـلاء، وتنخرط مع الرباط في حوار جدي ومسؤول يراعي حسن الجوار، لمناقشة مختلف الملفات والقضايا الشائكـة بين الطرفين، والتي تحول دون إدراك شراكة حقيقية مبنيـة على الصداقة والمسؤولية والاحترام والسلام والتعاون المشترك والمصالح المتبادلـة وفق قاعدة "رابح .. رابح"، وإذا كانت الثقة قد تراجعت إلى مستويات غير مسبوقة بسبب أزمة "بن بطوش"، فلا إمكانيـة لإعادة بنائها في الأفق، إلا بمحاكمة جادة وحقيقية للمعني بالأمر، وباعتراف إسباني حقيقي بمغربية الصحراء، وإلا فالمغرب له حلفاء وشركاء، كما له أوراق كثيــرة، قادرة على صد الابتزاز أيا كان مصدره، بما يلزم من الحزم والمسؤولية والمصداقيـة، أما الصحراء المغربية التي مازالت إسبانيا تكن لها العداء، فهي في مغربها، شاء من شاء وكره من كره.