السبت 20 إبريل 2024
مجتمع

عبد النباوي في كلمة للقضاة: عيون المجتمع ترصد حركاتكم وتحصي هفواتكم

عبد النباوي في كلمة للقضاة: عيون المجتمع ترصد حركاتكم وتحصي هفواتكم القضاء يوجد في صلب المعارك المصيرية في حياة الأمم
عاد محمد عبد النباوي، الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية 42 سنة إلى الوراء، وهو يستحضر لحظة التحاقه بأول تعيين له في القضاء كنائب لوكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بطنطان، لتقوده الظروف اليوم إلى أعلى منصب في القضاء.
هذا الاسترجاع رواه عبد النباوي بمناسبة تخرج الفوج 43 للقضاة، حيث تم تخصيصهم بكلمة توجيهية بالمناسبة، "فالبداية واحدة.. والنهايات مختلفة"، يقول عبد النباوي مضيفا، «هذا اليوم يعتبر علامة فارقة في حياتكم، تفصل بين مرحلة الشباب وما يرافقها من اعتماد على الأسرة، وما يتخللها من فورة وحماس يسمحان ببعض التجاوزات.. وبين مرحلة النضج، التي تتميز بالاعتماد على النفس، والقطيعة مع اللامسؤولية ونبذ التجاوزات.
اليوم، تئدون شبابكم وهو في عنفوانه، لِتَرْتَدُوا بردة الكهول. فمهنة القضاء تتطلب منكم بعض التضحيات، يقتضيها وقار القضاء وحرمته اللذين أصبحا أمانة في أعناقكم، وتتطلبها مبادئ العدل والإنصاف، وما تقتضيه من التزام بالتجرد والحياد والاستقلال. وهو ما يستلزم منكم الحرص على التحلي بها في السر وإظهارها للناس في العلن. كما أن هذه المهنة تُساءَل من طرف المجتمع خلافاً لما تُسْأل عنه باقي المهن. فتقتضي بذلك الالتزام بواجب التحفظ، وبعدم إبداء الرأي في القضايا المعروضة على القضاء، وتتطلب التقيد بواجبات أخلاقية، يتعين أن يتشبث بها القاضي والقاضية في سلوكهما. ورغم أن الدستور والقوانين المتعلقة بالمهنة، وكذلك مدونة الأخلاقيات تنص على كل هذه القيم والمبادئ، وتحددها بوضوح، إلاَّ أنه يتعين عليكم أن تعلموا أن عيون المجتمع ترصد حركاتكم وسكناتكم، وتحصي هفواتكم وإنجازاتكم.
ولذلك فإن مقياس التزامكم بالقيم الأخلاقية لمهنة القضاء، هو نظرة المحيط الذي ستعيشون فيه. مما يوجب عليكم التساؤل كيف سيُقيِّم سلوككم إزاء أمر معين. فإن استحسنه فهو خير، وإن استاء منه فهو لا يليق بالقاضي. وبالتالي فهو منافي لأخلاق القضاء وأعرافه وتقاليده، أو المبادئ التي تقُوم عليها المهنة".
وحول علاقة القضاة بمحيطهم يقول عبد النباوي، "إن صرامة المجتمع نحو القاضي تجد تفسيرها في الدور الجسيم الذي يقوم به القضاء في حياة الأمم، والمهام العظمى التي يضطلع بها القضاة في ضمان الاستقرار والأمن داخل الأوطان. وفي تخليق الحياة العامة وفرض قواعد النزاهة والشفافية، وتنقية المناخ الاقتصادي وجلب الاستثمار والحفاظ عليه، وتسريع وثيرة النمو الاجتماعي، وترسيخ قواعد الديمقراطية. ولذلك فقد قال جلالة الملك حفظه الله في افتتاح أشغال المجلس الأعلى للقضاء يوم 15 دجنبر 1999: "إن العدالة، كما لا يخفى، هي الضامن الأكبر للأمن والاستقرار والتلاحم الذي به تكون المواطنة الحقة. وهي في نفس الوقت مؤثر فاعل في تخليق المجتمع وإشاعة الطمأنينة بين أفراده وإتاحة فرص التطور الاقتصادي والنمو الاجتماعي، وفتح الباب لحياة ديمقراطية صحيحة تمكن من تحقيق ما نصبو إليه من آمال". انتهى النطق الملكي الكريم.
إن القضاء يوجد في صلب المعارك المصيرية في حياة الأمم. معركة الأمن والبقاء والاستقرار والتطور والنمو والسلم الاجتماعي واستمرار المقاولة وجلب رؤوس الأموال والحفاظ على مناصب الشغل وحماية الحقوق وفرض الواجبات والتخليق وحماية الديمقراطية ومساواة المواطنين. ولذلك فإن القاضي
- باعتباره يجسد رمزاً للقضاء - يحظى في المجتمع بنظرة مختلفة، بحيث يشترط فيه صفات لا تشترط في غيره من الموظفين أو المتولين مهام عامة. فينظر إليه الناس كما ينظر المريد إلى المصلح، فينزهه عن الخطأ وينأى به عن الزلل، ويفترض فيه مِثَالية السلوكِ والعصمة في التدبير والنزاهة في التقدير والصواب في الحكم. أليس القاضي هو المسؤول عن حماية حقوقه وحرياته وأمواله ؟ أليس هو من ينصف المظلوم من الظالم ويقتص للضعيف من القوي ؟ ! أليس هو الذي ينطق بالقول الفصل ويصدر الأحكام باسم ملك البلاد ؟ ! أجل هو كذلك. ولذلك يشترط فيه المجتمع ما لا يشترطه في غيره من الصفات والخصال".
وفي توجيه صريح، قال الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، "يتعين عليكم رعاكم الله أن تعوا ذلك وأن تتمثلوه في سلوككم وتصرفاتكم، وأن تراعوه في لبساكم ومظاهركم. وأن تستحضروه في حديثكم وتعبيركم وفي معاملاتكم وعلاقاتكم، وتبتعدوا عن كل الشبهات وتتجنبوا الأماكن التي لا تجدر بمهنتكم، وتتلافوا العلاقات التي تضر بسمعتكم.
عليكم أن تلتزموا بتقاليد المهنة وأعرافها التي ورثناها من قدماء شيوخنا كابراً عن كابر، وتتقيدوا بمدونة الأخلاقيات، وتروا فيها حماية لكم ولكرامة مهنتكم وحرمتها.
وهو ما يتطلب منكم دراستها دراسة معمقة، واستيعاب أحكامها وأهدافها ومراميها.
وأعلموا أن استقلال القضاء لن يكتمل إلاَّ بتمعن القاضي جيداً في ملفاته، ودراسته المعمقة لدفوعات الأطراف واستيعابه لجوهر الدعوى، وتطبيقه الجيد للقانون على المنازعة. والتطبيق السليم للقانون لا يتم إلاَّ بالتكوين الجيد والبحث المستمر والإلمام المعمق بالاجتهاد القضائي المستقر. فهذه هي مفاتيح الثقة في القضاء، تتجلى في اكتساب سلوك حسن ومهارات معرفية جيدة وإلمام بمتغيرات القانون والاجتهاد وحسن تطبيقها على النوازل.
كما أن الثقة في القضاء تتطلب حماية الأمن القضائي الذي يستدعي استقرار تأويل النصوص، وعدم التّسرع في وثيرة تغييرها متى اقتضتها ضرورات الحياة أو تطور المعاملات. كما يقتضي وضوح الأحكام وسلامة تعليلها. بالإضافة إلى البت والتنفيذ في آجل معقول..
واعلموا أن السنوات المقبلة ستكون حبلى بالتحولات الرقمية، وأن وجه المحاكم التي ستلتحقون بها خلال الأيام القادمة سوف يتغير بالمطلق نحو محاكم رقمية. ولذلك عليكم أن تكونوا سباقين إلى التمسك بهذا الأسلوب الحديث، لما يوفره من نجاعة وفعالية وسرعة في الأداء القضائي، ولو في الحدود البسيطة المتمثلة في تحرير مقرراتكم والمكتوبات المهنية التي تنجزونها. في انتظار إنجاز البرمجيات الطموحة التي أعلنت عنها وزارة العدل، والتي يجري العمل على تنفيذ بعضها حاليا.
كما أنكم مطالبون بالاستمرار في التعلم والتحصيل سواء في إطار أبحاثكم التي يستلزمها عملهم والأحكام التي تصدرونها أو المقررات التي تتخذونها، أو في إطار التكوين المستمر أو التخصصي الذي تقرره مؤسسات السلطة القضائية لفائدتكم. فالتكوين ضرورة حتمية لتفوقكم في مهامكم القضائية، ولذلك اعتبره القانون التنظيمي واجباً عليكم".