الجمعة 29 مارس 2024
فن وثقافة

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (الحلقة 13)

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (الحلقة 13)
حالة الحسرة وخيبة الأمل تخيم على مشاعري. صرت أعاني من اضطرابات في النوم. شعور إحباط بدأ يتملكني، اندسست داخل كيس نوم أزرق، أرى كوابيس تزعجني. مشاهد متناقضة تستوطن مخيلتي: جورج يصرخ في وجهي، يعاتبني فيطردني من العمل. سوزان لم تغادر ذهني منذ أن افترقنا عند بوابة المترو، أما هكتور فصار يطاردني في منامي كما كان يلاحقني في يقظتي. أجري فيجري ورائي، أهرب منه، ألوي ورائي فأجده يركض بسرعة أقوى. تخيلت نفسي  كفريسة يطاردها ذئب أسود.
أشعر وكأن هكتور يريد قتلي، حاولت أن أفلت منه مرات لكنه انبعث واقفا أمامي، اعترض طريقي كالشبح، كان ممسكا بآلة حادة، فهو مصر على النيل مني، لقد تحول إلى كابوس يقض مضجعي. أنا الآن أصارع كوابيس مفزعة، أخشى أن يعود بي الوضع إلى سابق عهدي، أخشى أن أسقط في متاهات المجهول مرة أخرى. استغرقت وقتا طويلا أتقلب داخل كيس نومي، ثم أطبقت جفوني وغبت في نوم عميق يشبه الموت.
 
على حين غرة، استيقظت من النوم مرعوبا على وقع طرق قوي للباب، إنه حسن! صاحب كشك الخضار والفواكه جاء ليقلنا في شاحنته إلى سوق شارش ستريت.
كنا نحن الثلاثة في البيت، كل واحد منا في كيسه مستلق على أريكة الصالون وكأننا في ملجئ خيري. أخي عبدالرؤوف على يميني ومحمد صاحب البيت على يساري، غارقون في النوم. أهل البيت في إجازة صيفية بالمغرب. كانت الساعة تشير إلى الرابعة فجرا، وقف حسن عند رؤوسنا يحفزنا على النهوض، نخرج من أكياسنا منسلين واحدا تلو الآخر وكأننا ثعالب تخرج من جحورها في جنح الليل، جميعنا منهكون ومخدرون من ثقل النوم، نتناوب على دورة المياه، نتثاءب ونحن "مفعفعون" شبه سكارى. لست أدري ماذا أفعل هنا ولماذا أستيقظ في هذا "نبوري"؟، قيل لي إني سأشتغل مع حسن كمساعد في أسواق لندن، وإذا بي أجدني أستفيق قبل صياح الديكة مع بزوغ الفجر، حدثت نفسي: إلى أين نحن ذاهبون في هذه الساعة؟، وهل سوق الخضار يرتاده الناس قبل انبلاج خيوط الفجر؟.
داهمني إحساس غريب وخلت نفسي وكأني عسكري ذاهب لإحدى جبهات القتال لصد عدو متربص بحدود الوطن.
 
ألقي بي داخل عربة باردة في مؤخرة الشاحنة مع كومة من صناديق بلاستيكية.. أوعية فارغة.. وقضبان حديدية مع بعض حبال القنب، جلست وحيدا فوق غطاء بلاستيكي "باش" مخطط بالأخصر مطوي على أربع، فيما ركب الثلاثة في مقدمة الشاحنة. لم يكن يتسع المكان لأكثر من ثلاثة أشخاص. صوب حسن إلي نظرات شاحبة وقد علت محياه ملامح جافة صارمة، خمنت أنه يحاول قراءة ما يموج في خاطري، ثم أسدل علي الستار بقوة. تم القذف بي كشخص منبوذ داخل العربة، يا لها من تعاسة! يا لسخرية القدر! منذ شهرين فقط، كدت أصير أستاذا والآن تجدني متكدسا مع صناديق وقضبان حديدية يكسوها الصدأ خلف الشاحنة. لن أتخلى أبدا عن حلمي القديم بأن أصبح أستاذا. كنت أتخيل نفسي داخل الفصل بين طلبتي مزهوا أشرح لهم مادة الفيزياء، وإذا بي أرفع عيني نحو أرتال من صناديق وسخة. أخذت العهد على نفسي أن أخوض مباراة الأساتذة من جديد بعزم وإصرار هذه المرة. لن أحقد على وطني القاس رغم تخليه عني، حلمي القديم مازال يراودني. ستكون السنة الآتية مفصلية في حياتي. قد لا أبالغ إن قلت كلما ازدادت خيبتي هنا، ازدادت غربتي ووحشتي إلى وطني، فأنا لن أتحمل البقاء مستخدما عند حسن يطوف بي شوارع لندن في شاحنة مهترئة. لم أكن أتصور أن الحياة  قاسية إلى هذا الحد في بلاد الإنجليز وأنا الذي كنت أرى شبابا مهاجرين يقودون سيارات فارهة في شوارع مدينتي. يرتدون ملابس فاخرة بماركات عالمية، يمشون الخيلاء مزهوين أمام الناس. رأيت بأم عيني شابا يدعى حليم رجع إلى المغرب بسيارة مكشوفة من نوع "أوستين" بعد سنتين قضاها في المهجر. كان يسابق زملاءه المهاجرين بسرعة جنونية في كورنيش العرائش، أصوات موسيقى صاخبة تنبعث من سيارته الفارهة، يمر أمامنا مسندا ذراعه الأيمن على نافذته، ينفث دخان مارلبورو في الهواء منتشيا. كان محط أنظار فتيات جميلات، شباب يركضون كالمهابيل وراء سيارته، فيلتصقون بها وكأنهم يتمسحون بجدران ضريح طلبا للبركة، يتملقون ، يتزلفون إليه ، ويطلبون وده . كان يوزع ابتسامته علينا وكأنه الأمير شارلز قد حل ببلدتنا.
 
من داخل هذه الشاحنة استوعبت درس المهاجرين جيدا، أدركت أن الحياة في لندن ليست وردية كما كنت أتوهم، إن رغبت في جمع المال وتصنع مثلهم، فعليك أن تركب شاحنة باردة وتطوف بك شوارع لندن فجرا، أو تمضي ساعات طويلة تغسل الصحون بقبو مطعم إيطالي. بعضهم يكنسون المكاتب في إدارات شاهقة، ينظفون عمارات بمواد تطهير تزكم الأنوف، يبيدون حشرات خطيرة بسوائل كيماوية سامة إذا لزم الأمر. أدركت أن مراكمة المال بلندن يقتضي جهدا بدنيا وعملا مضنيا شاقا.
 
 كان حسن يقود شاحنة زرقاء من نوع بدفورد، الطقس بارد، سكون الليل يخيم على منطقة لاتيمار رود، شقشقة الطيور تصل أذني من أشجار متراصة على جانب الشارع، ترن في أذني فتحدث صوتا شجيا وكأنها سيمفونية هادئة.
 إحساس الدوار يستبد بجسدي غير المتوازن، ذهني شارد ومشتت، أمضيت ليلة متعبة أطارد فيها كوابيس مرعبة.
 
 أخذت الشاحنة تخترق شوارع لندن تجاه السوق، أصابعي تكاد تتجمد من شدة البرد القارس سيما عندما ألمس قضبان الحديد من حولي، عند المنعرجات أحتمي بجزء من غطاء "الباش" حتى لا تسقط الصناديق فوق رأسي.
 داهمني إحساس غريب وأنا أمتطي مؤخرة الشاحنة، أهذه هي لندن؟! طوال حياتي وأنا أمسك بكتبي وأقلامي، والآن تجدني داخل عربة موحشة. حظي اللعين يعاندني، خلت نفسي ممتطيا شاحنة عمال كادحين في طريقهم إلى ضيعات الفراولة بمولاي بوسلهام.
 
 عند وصولنا إلى سوق شارس ستريت، وجدنا شابة إنجليزية شقراء تدعى مارغريت تنتظرنا عند المربع المخصص لنصب الكشك، علمت بعد ذلك أنها زوجة حسن، تعرف عليها منذ أيام الطفولة، فقررا أن يلجا ميدان التجارة بعدما انقطعا عن الدراسة في سن مبكر. كانت مارغريت شابة هادئة وذكية، تمتلك خبرة عميقة في إدارة تجارة الأسواق. تشتغل بجد وإصرار، تحدث الزبناء بلطافة عكس زوجها الذي كان فظا صعب المراس، حسن شاب صارم يشتغل بدون كلل لساعات طويلة، لكنه سريع الغضب وطبعه متشنج.
 
 ذات صباح بينما كانت مارغريت ترتب البضاعة فوق الرفوف، اشتبك حسن في الكلام مع أحد زبنائه الأفارقة. أسلوب التجارة عند الانجليز يقتضي اللباقة والإتكيت في الحديث، الزبون دائما على صواب حتى لو أخطأ، فهو الذي يدفع المال. هذه المقولة لا تنسحب على الشاب حسن. بمجرد ما تفوه الزبون الإفريقي بكلمات لاذعة حتى انتفض حسن واستشاط غضبا، انتفخت أوداجه وجرت في عروقه دماء العروبة المشتعلة.  تصايح الرجلان ثم انخرطا في مشادة كلامية حادة، تطور الأمر الى نطحة رأسية من طرف حسن وبدأ التشابك بالأيدي. أسقطه أرضا بلكمة مباغثة وأخذ يمطره بضربات قوية وكأنه علي كلاي. تدخلت مع محمد على وجه السرعة لفض الاشتباك غير المألوف في السوق. كاد حسن أن يفتك بزبونه، لقد اخطأ الشاب الإفريقي طريقه وأساء التقدير، ظن المسكين أن حسن مثل باقي التجار الإنجليز والهنود يتقبلون الكلام الناب بصدر رحب، لم يتصور الزبون الإفريقي أن الشاب المنحدر من قبيلة سوماتة العنيدة قد ينقض عليه، فيتحول من تاجر وديع إلى وحش آدمي مجنون.
 
 وقفت مارغريت جامدة في مكانها ترقب المشهد القاس، لاح هول الصدمة على وجهها، لا تكاد تصدق ما تشاهده من عنف غير مبرر، وما عساها أن تفعل؟، فهي تحب زوجها وتعرفه منذ كان طفلا صفيقا بالمدرسة، وتعشقه كثيرا رغم رعونته وجبروته.
بعدما نصبنا الكشك الحديدي فوق المربع، أسدلنا "الباش". آنذاك استقلت الشاحنة مع حسن وتوجهنا سويا نحو سوق الجملة "كوفن غاردن" لجلب بضاعة اليوم. جلست أنصت إليه بشغف فيما كان يقود شاحنته بهدوء، طفق يحدثني بتباه عن ذكريات ماضيه بلندن، طوال الرحلة وهو يحكي عن شجار عنيف نشب بينه وبين زبون مصري استخف به، فلقنه درسا على غرار درس الزبون الإفريقي...