الاثنين 25 نوفمبر 2024
منبر أنفاس

عبد اللطيف برادة: أيام عيشتي في الجحيم

عبد اللطيف برادة: أيام عيشتي في الجحيم عبد اللطيف برادة
أشعر وانأ اخط هذه الأحرف المثقلة بالجراح وكأنني عاجز اشد العجز عن تدوين بالدقة المتوخاة وبالحياد الكامل كل التفاصيل التي تتعلق بما عايشته لحظة فراقي مع والدي اثر قرارهم الرجوع بدوني أنا وإخوتي إلى بلاد الغربة السنغال حيث كان أبي يزاول التجارة بمدينة كاولخ، وذلك رغبة منه لكي نظل انأ وإخوتي بالمغرب وطننا الأم، حيث سيتسنى لنا أن نستكمل مسارنا الدراسي والتربوي في مناخ لا ننسلخ فيه عن هويتنا الأصلية هذا ما كان يبرر حسب ما قيل لي فيما بعد القرار المشؤوم.
هذا في الظاهر لكن السر سيظل غامضا بالنسبة لي على كل حال لأنني لم اقتنع بما قدم لي من تبرير والدي سيظل على كل بالنسبة لي غير كاف بتاتا ولهذا سأحاول لاحقا أن أفك لغز الشفرة لكن لم أفلح حيث كانت تغيب عني تفاصيل كثيرة مما كان يصعب عني المأمورية لكنني كنت رغم صغر سني استطيع أن أتفهم بعض الأوضاع الغامضة ومن ثم الدوافع الحقيقية لكل شيء
فكيف لي أن أكون محايدا أمام وضع محرج يؤجج المشاعر ويعطل العقل...
أتذكر كيف انتابني حينذاك شعور غريب جعلني اشعر بالانكماش والاضمحلال بقرب الآخرين حيث كنت اشعر وكأنني لاشيء ففي الحقيقة كلما كنت ارغب فيه أنذاك هو الانفلات من يد خالي الذي كان يتمسك بي كفريسة او طريدة صيد ثمينة ولهذا كان يبدو لي حينها الهروب المخرج السليم من الوضع الخطير والمؤلم الذي فرض علي ومن ادني موافقة مني ولما الموافقة من طرف طفل لا يساوي في نظر الكبار بعوضة..قولوا لي فكيف الحياد أمام وضع يشبه الزلزال..
فيا لها من ذكريات أليمة يا لعنة القدر لقد كان الفراق جدا موجعا بالنسبة لي إلى درجة أنني لا زلت اشعر حتى اللحظة التي اكتب فيها بالمواجع التي تسبب فيها دلك الحدث المؤلم بل إنني لأجزم انه كان الحدث الأشنع في مسار حياتي وهو الشيء الذي اعتبره حتى اللحظة النقطة الفاصلة وبداية انطلاقي نحو المجهول ولهذا ستجدونني مصرا بعد مرور كل هده السنوات الطوال وكبر سني على تدوين وبشكل دؤوب يوما بيوم قصة طفولتي حيث أجد نفسي كلما سنحت لي الفرصة منكبا بطريقة لا شعورية وأوتوماتيكية على أوراقي اخطط بأنامل مرتبكة على صفحات مذكرتي ذات الغلاف الأسود كل اللحظات التي عايشتها والتجارب التي مررت بها في تلك الفترة اللعينة من حياتي أي أيام طفولتي التي قضيتها بعيدا عن والدي تحت سقف بيت خالي منفصلا هكذا عن إخوتي وبقية أهلي .
نعم لا زلت أتذكر تلك الفترة المشؤومة ولا زالت نفسي تتحمل حتى الآن آثار كل تبعاتها وأعبائها القاسية
طبعا لم أكن أعي أنداك كل ما كان يجول من حولي من مؤامرات وقرارات تؤخذ من دون موافقتي أو حتى إشعاري فلم أكن أنذاك سوى طفلا يافعا مجرد لعبة تتقاذفها أيدي الأقارب او ورقة منفلتة تتلاعب بها رياح القدر. نعم كلما راجعت لحضه ضياعي ينتابني نفس الشعور الذي كان يلازمني آنذاك طوال الوقت فأكرر نفس المشاهد والمواقف بدون توقف هكذا كنت أتمرد على سلطة الكبار فارفض الرضوخ للواقع الخانق الذي كان يفرض علي رغما عني حيث كان علي الرضوخ للأمر الواقع الذي كان يجبرني على التحول الى مجرد شيء بخص تتبادله أيدي الأقارب اللا مبالية أو لنقل أيدي العقارب
فحتى هذه اللحظة وانأ سطر هده الكلمات لا زلت اجتر كل الإرهاصات التي تتعلق بطفولتي فأعايش نفس العوالم التي كانت تحيط بي ونفس المقالب التي كانت تحاك ضدي من طرف من هم أهلي والدين كانوا بمثابة أوليائي حيث كان من المفترض أن يسهروا على مصلحتي ومستقبلي أكثر من أي شخص آخر لكن الواقع كان على عكس ذلك ولأسباب قد اشرحها لاحقا حيث سبق لي أن دونتها في وريقات رتبتها بأرقام ومسميات مصحوبة برموز معينة حتى يسهل على من يريد على الاضطلاع على ما تبقى من القصة أن يتفحصها بكل سهولة...
كنت حينذاك أعيش من دون ادني وعي بمصيري ومادا طرا لي بالفعل بل كنت في شبه غيبوبة و لا زال الشعور الذي كان ينتابني انذاك يلازمني وينبعث من فترة لأخرى لدرجة يجعلني ارغب في وضع حدا لهدا الشعور بطريقة أو أخرى..
كنت أعيش حينها من دون أدنى وعي بمصيري أو بما سيترتب لاحقا من اثر ذلك علي من جراء الانفصال بل كان كل همي منصبا على انتظار عودة والدي من الغربة اد كنت اشعر انذاك أن الحياة توقفت وان لا شيء سيعود إلى وضعه الطبيعي إلا بعد عودة الأهل من السنغال ولهدا كنت مستعدا ان اتحمل كل شيء نعم كل شيء حتى الاهانة وحياة السخرة التي أرغمت عليها بعدما أصبحت مجرد خادم صغير في عيون زوجة خالي التي كانت تحتقرني اشد الاحتقار إلى درجة التي جعلتها تعتبرني سوى مجرد مستخدم لديها وليس أكثر كنت أعي طبعا كل هذا وأكثر لكنني فضلت التظاهر بالغباء حتى لا أثير سخطهم علي وهكذا بدأت اشعر وكأنني مجرد حشرة سجينة لمصير مجهول فكنت وانأ طفل مقتنع أنني مجرد بعوضة عليها أن تنحني أمام جبروت الكبار وهكذا كنت اتركهم يتصرفون بحياتي كما يشاءون فكان علي فقط ان انتظر يوم الانفراج أي يوم العودة وكأني وضعت في سجن الغيت فيه شخصيتي بالكامل وكرامتي فالحياة لم تكن بالنسبة لي وانأ أعيش وسط أبناء خالي مجرد جحيم نعم لقد دقت طعم مرارة الذل والاحتقار ولهذا قد أصبح قادرا أن اصف لكل من يرغب في ذلك وبكل تدقيق جو قهر السجن الذي كنت أعيش فيه.
و لا زلت رغم مرور كل هده السنوات حبيس شعور الطفولة الضائعة ذلك أن الطفل الحزين لا يزال قابعا بداخلي بل انه يطاردني حتى في أحلامي وحياتي اليومية فيحولها في كثير من الأحيان إلى شيء لا يطاق ولا يوصف نعم لا زلت رغم مرور كل تلك السنوات أتذكر كيف كان حالي أي نعم ذلك الطفل الذي أصبح يبدو للأهل فيما بعد مجرد شخص تافه.
وهكذا أصبحت اشعر انه يجب علي التخلص من شبح هذا الطفل وألا قد يضيع علي كل فرص العيش وكل أحلامي أتذكر الآن كل شيء فأتألم جدا وانأ أراجع تلك الذكريات فأتساءل ما جدوى أن يتذكر المرء الشيء الذي يؤلمه أليس من الأفضل التخلص من كل دلك ولكن كيف فكل همي في الحقيقة كان منصب على رجوع أهلي ولا شيء آخر حيث لم أكن أعي مادا كان يحاك من حولي وما الذي يجب فعله وماذا عسالي ان افعل حتى أنجو بنفسي من دوامة الأسئلة التي تطاردني وتنغص علي حياتي ففي الحقيقة لقد حاولت مرارا أن أتمرد على خالي لكن لم تكن النتيجة إلا العقاب التعسفي.
ولهذا قد بدأت اعتقد اشد الاعتقاد ان قدري كان هكذا وانه قد حكم علي أن أفارق أبي وعمري لا يتجاوز خمسة سنوات وهو الاعتقاد الذي سيرسخ لدي حتى بعد رجوع أهلي حيث سيتعقبه مرة أخرى نفس القدر وبأبشع الطرق كي ينكل بي وأعذب في نفسي اشد العذاب من طرف نفس الخلية أي خالي وزوجته اللذان لم يتقبلا ان انفك من المصير البائس اللذان سطروه لي سلفا
اجل كنت اشعر أن هناك سر خفي من وراء كل ذلك وكان علي لاحقا فهمه وإدراكه فلم يبق أمامي بعدما صرت واعيا بكل شيء إلا أن أدون تفاصيل عذاباتي وقهري وهكذا وجدت نفسي انكب يوميا على كتابة هذه الأسطر المقتبسة من حياتي وهي القصة التي واعدت نفسي وأنا طفل ان انشرها في يوم من الأيام عندما تسنح لي الفرصة
لا زلت أتذكر وانأ اكتب التفاصيل وكان ذلك الماضي اللعين لا يزال يسكنني نفس الطفل يطاردني كلص يتربص بي لسرقة فرحتي.
وهكذا كنت اشعر باللحظات والمشاعر البائسة تمتزج مع الفرحة فتختلط بمشاعر غريبة على الورق.
أتذكر رغم تلك المسافة التي تفصلني الآن عن هذه الطفولة التي ما زالت ذكرياتها تتمعن في زعزعتي من الأعماق خاصة تلك الذكريات المرتبطة بهذه اللحظات التي تم لفضي فيها ككومة قماش من قبل والدي اللذان أجبرا على تقبل أمر انفصالنا عنهما انأ و بقية إخوتي لأسباب التي لم أدركها آنذاك ! لماذا إذن حدث هذا الانفصال اللعين
انه سؤال مؤرق وهو الهاجس الذي قد يستمر من دون وعي مني في نخر وجداني فيحرمني من ادني شعور بالراحة.
هكذا قرروا ذات يوم كل شيء نيابة عني فثم تسليمي إلى خالي دون أن تعطى لي أي فرصة أو أي خيار آخر.
كنت أقول لنفسي في كثير من الأحيان لكي أريح عقلي المعذب انه لا مجال لمحاولة فهم هذا القرار اذ لا شيء يوضح الدوافع الكامنة وراء القرار حيث أصبحت متأكدا انه حتى لو حصل العكس وأعطوني فرصة ألاختيار ماذا كنت سأفعل بعد ! فما هو البديل الذي كنت سأختار أي بين ماذا وماذا! لم يكن أمامي سوى أن اقول نعم أو لا! في هذا النوع من ألحالات لم تكون تسنح لي مجموعة واسعة من الإمكانيات فكل شيء كان قد رتب بدقة. ومع ذلك سأتخيل هذا النوع من القرار الذي قد كان بإمكاني اتخاذه حيث سوف انظر لاحقا إلى كل ذلك بأثر رجعي. فغالبا ما كنت اكرر هذا المشهد المؤلم جدا مرارا.
ففي ظل خلفية دراماتيكية المشهد "سوف أرى نفسي وكأنني في كابوس بصحبة خالي يعرض علي إما البقاء أو الخضوع لعملية إعدام . فما الخيار الذي كان يجب علي اتخاذه في هذه ألحالة اذ كنت أرى نفسي مخير بين الموت السريع وبين البقاء مع خالي
فماذا كنت ستقرر لو وضعت في هدا ألموقف المحرج فبكل تأكيد لم أكون أتردد في الاختيار بين ألاثنين وبكل تأكيد كنت سأختار دون أي ادنى شك الخيار الأول. في مثل هذه الظروف لن اسلك طريقا آخر. وستكون هناك إجابة واحدة فقط على ألسؤال اذ قد كرّرته بنفسي كثيرًا إلى درجة أصبحه فيها مقتنعًا بالاختيار. كان يجب علي أن اتخذ قرارا متطرفًا شيئا ما ، لسبب بسيط هو أن البقاء مع خالي لا يعني لي شيئًا أكثر من اختيار نوعًا ما الموت البطيء الذي سيؤدي لا محالة إلى تفككي البيولوجي من الداخل.
وهذا بالفعل ما حدث لي نتيجة ما عانيته من العذابات لذلك يبدو لي الآن أن كل خلية من خلايا جسمي تحمل آثارًا لهدا ألتفكك كل ذلك نتج بالطبع عن معاناتي. أصبح الآن كل تاريخ حياتي مرتبط بمصير الموت البطيء الذي فرضته علي عيشتي تحت سقف بيت خالي الذي لم يكون سوى جهنمي الصغير.
وحتى فيما بعد شعرت بعد انضمامي إلى والدي وإخوتي وكأنني رجعت مباشرة من أوشويتز أي المحرقة الجماعية لليهود و لذلك قد قررت بدوري أن أطالب فيما بعد بحقوقي الكاملة كضحية للإقصاء الذي فرض على ؛ هكذا سأطالب في حال اذا ما قررت ذلك أيضاً بجميع التعويضات عن الضرر الذي لحق بي من جراء معاملتي كمجرد حشرة لا تستحق حتى مشاركة أبناء خالي غرفهم أو ألعابهم أو أي شيء آخر وكان بي مرض الجذام قد يعديهم إذا ما اختلطت بهم نعم قد أطالب بكل هذا وأكثر رغم أنني في مثل هذه الحالة ، لن أتمكن من تقييم التعويض إلا نسبيا وعلى كل سأوكل الأمر إلى محام متمرس في مثل هذه القضايا ذات البعد الإنساني .