الجمعة 1 نوفمبر 2024
فن وثقافة

العسبي: كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ سيدي قاسم (بوتي جان) والقنيطرة (بور ليوطي) وحظ الفوز بمستشفيات حديثة منذ 1913 (ح 13)

العسبي: كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ سيدي قاسم (بوتي جان) والقنيطرة (بور ليوطي) وحظ الفوز بمستشفيات حديثة منذ 1913 (ح 13) صيدلية البريد بشارع كليمنصو بمدينة القنيطرة سنة 1922 (وفي الإطار لحسن العسبي)

كما سبق وأكدنا من قبل، تقدم قصة كل من مدينتي "بوتي جان" (سيدي قاسم حاليا)، و"بور ليوطي" (القنيطرة حاليا)، الدليل على التحولات الهيكلية الكبرى، التي أحدثها الاستعمار الفرنسي، في الجزء الذي فرض فيه الحماية على المغرب منذ مارس 1912، على مستوى إعداد التراب. كونهما مدينتان خرجتا فجأة من العدم، بقرار سياسي للمستعمر، وأصبحتا تلعبان دورا محوريا على المستويين العسكري والصناعي منذ 1913. وما يهمنا اليوم هنا، هو الشق المتعلق بإنشاء "الخدمة الطبية الحديثة" بهما.

 

سيدي قاسم (بوتي جان).. بين قبة الزاوية وتمثال الضابط العسكري

لا يمكن تمثل الرهان على إنشاء مصالح طبية بمدينة "بوتي جان" (سيدي قاسم)، من قبل المستعمر الفرنسي، بدون استحضار بعض من تفاصيل إنشاء المدينة نفسها. ذلك أنه إلى حدود سنة 1911، كانت الأرض حيث ظهرت المدينة تلك، مجرد ممر عبور استراتيجية لقوافل الحجاج في طريقها إلى فاس، مثلها مثل الكثير من محطات العبور الأخرى المشابهة بالمغرب. وسبب كونها محطة عبور محورية يعود إلى الزاوية القديمة القائمة بها منذ القرن 17، التي تضم رفاة الولي الصالح "سيدي قاسم بوعسرية مول لهري"، الذي كان له دور في تنظيم تجارة الحبوب بالمنطقة، بسبب وفرة المنتوج الفلاحي بضفاف وادي "رضم"، الذي يعتبر واحدا من روافد نهر سبو. وكانت تضم قصبة عسكرية بناها السلطان مولاي اسماعيل في أوائل القرن 18، وضع بها جنودا من فرقة عبيد البخاري تلعب دورا محوريا في تأمين عبور "المحلات السلطانية" وكل الوفود الرسمية (خاصة الأجنبية) من مكناس وفاس إلى الرباط، وأيضا إلى طنجة والشمال الغربي للمغرب.

 

مع حلول سنة 1911، وبداية الزحف العسكري الفرنسي، انطلاقا من ميناء المهدية بالمحيط الأطلسي (عند مصب نهر سبو)، باتجاه عاصمة المغرب فاس (حينها)، حتى قبل توقيع اتفاقية الحماية يوم 30 مارس 1912، ستجتاز تلك القوات العسكرية الفرنسية الكثير من بلاد سهل الغرب، حيث واجهت مقاومة شرسة من ساكنة المنطقة، ضمنهم قبائل بني حسن الشراردة بالمعبر الاستراتيجي لقصبة "سيدي قاسم بوعسرية". وفي منطقة غير بعيدة عنها، باتجاه سيدي سليمان، سيسقط ضابط عسكري فرنسي قتيلا، اسمه "النقيب بوتي جان" المستقدم ضمن وحدات عسكرية فرنسية من الجزائر. فقرر الجنرال غورو إطلاق اسمه على أول نواة لإنشاء ثكنة عسكرية بتلك البلدة الصغيرة في شهر ماي 1911. وتم بعدها استقدام معمرين فرنسيين وإسبان من الجزائر لاستيطانها بغاية القيام بعمليات إصلاح فلاحية لأراضيها الخصبة، فتشكلت الأنوية الأولى لأحيائها المدنية، التي تعززت بأحياء من الدوم ضمت عائلات العمال الفلاحيين المغاربة من القبائل المحيطة. وابتداء من 1918، سيتم إنشاء أول حي عمالي يضم عائلات عمال محطة تكرير البترول والغاز الصغيرة (الأولى من نوعها بالمغرب)، بعد اكتشاف بئر للبترول صغير الحجم وبئرين للغاز. واتخذ قرار شق السكة الحديدية ابتداء من سنة 1920 للربط بين فاس وبور ليوطي والرباط، ثم بينها وطنجة، فأصبحت بلدة "بوتي جان" محطة عبور محورية، لها دور عسكري حاسم، ودور اقتصادي ودور تواصلي.

 

ضمن هذا السياق سيأتي قرار إنشاء مؤسسة طبية عسكرية بالمدينة الجديدة التي ظهرت من العدم، منذ سنة 1912، مما يجعلها من أول البلدات الصغيرة بالمغرب التي حازت خدمات طبية حديثة. وستلعب تلك البناية الطبية الصغيرة (عمليا مستوصف طبي عسكري)، دورا فعالا في تحديد خريطة الأمراض والأوبئة بكل المجال الجغرافي الشاسع المحيط بها، من بلاد "جرف الملحة" حتى بلاد "زيرارة" و"زكوطة"، مرورا بدار الكداري ومشرع بلقصيري والحوافات وحد كورت. التي كانت تتحدد في أمراض السل والملاريا و الزهري بالأساس، مع نسبة أقل من مرض الجدري. وستلعب تلك المؤسسة الطبية دورا فعالا في القضاء خلال خمس سنوات على آثار الملاريا والتقليص بنسبة كبيرة من مرض الزهري ومن معالجة الأمراض الصدرية (خاصة السل الرئوي). ذلك أن وثيقة للطبيب العسكري الفرنسي الدكتور بلاسكا، تفيد أن طبيعة الطقس المميزة لبلدة بوتي جان (تصل الحرارة في الصيف إلى 45 درجة)، قد جعلت المنطقة ذات مناخ متميز ضمن محيط بارد، مما قلل من العديد من الأمراض المرتبطة بتشكل الطحالب بضفاف الأودية والبحيرات المطرية. مثلما أن إنشاء شبكة للماء الشروب وشبكة للصرف الصحي متحكم فيها من قبل مصالح حفظ الصحة العامة، بفضل أن المدينة جديدة، قد ساعد كثيرا في تطويق أسباب انتقال الأمراض وتفشيها بالمدينة (كانت مدينة نظيفة عمليا في بداياتها الأولى). وأنه مع توالي السنوات بين 1913 و1925، توسعت تلك المؤسسة الطبية، لتصبح مستشفى جهوي للإقليم كله، يضم 65 سريرا طبيا (وهذا رقم كبير حينها) لساكنة بالكاد تصل إلى 50 ألف نسمة في كامل الإقليم، ضمنهم 1230 أوروبي (فرنسي وإسباني، خصص لهم جناح مستقل داخل المؤسسة الطبية تلك). وأن تم تعقيم خلال عشر سنوات أكثر من 21 ألف مواطن مغربي ضد أمراض التيفويد والزهري والسل (خاصة منذ 1919 بالنسبة للسل). وأجريت به 116 عملية جراحية، وتم التمكن من التوفر على قسم خاص للراديو الطبي الأولي أنجزت بفضله 114 عملية تصوير مقطعي للكسور وأيضا للأمراض الصدرية. وبلغ عدد حالات الاستشفاء بالمعدل سنويا ما بين 1913 و1925، ما يقارب 25 ألف استشارة طبية (ضمنها جزء يتم من خلال الوحدات الطبية المتنقلة بالبوادي تحت إشراف الدكتور بلاسكا). مع تسجيل افتتاح مستوصفات طبية مجهزة (بها قاعات جراحية أولية صغيرة) بكل من سوق الأربعاء يشرف عليه الطبيب العسكري جون كاستان، ومشرع بلقصيري يشرف عليه الطبيب العسكري فيلليت، ابتداء من سنة 1920.

 

بور ليوطي.. الميناء النهري وحلم الماريشال

كان قرار إنشاء ميناء نهري (الأول والوحيد بالمغرب إلى اليوم) سنة 1913، من قبل المقيم العام الفرنسي الماريشال ليوطي قرارا سياسيا بإسقاطات اقتصادية واستراتيجية لقطع الطريق أمام نقل الثروات الفلاحية لسهل الغرب صوب مينائي العرائش وطنجة (غير التابعين للحماية الفرنسية). ولهذا السبب منح المدينة الوليدة عن ذلك الميناء اسمه وأطلق عليها اسم "بور ليوطي" (ميناء ليوطي). وقرر منحها كل الإمكانيات لخلق بنية تحتية حديثة، من طرق وسكة حديد ومصالح حفظ الصحة وبنية استشفائية وشبكة ماء شروب وشبكة صرف صحي. وفي هذا السياق جاء قرار بناء مصلحة طبية عسكرية بها منذ سنة 1913، تطورت سنة 1915 إلى مستوى مستوصف طبي موسع.

 

لكن، سيواجه مشروع الماريشال صعوبات كبيرة، هددت بقاء المدينة الوليدة نفسها، حين تفشى بها وبالمنطقة المحيطة بها سنة 1917 وباء الملاريا، الذي فتك بسرعة بنصف ساكنتها (القليلة العدد أصلا حينها). حيث سجلت هجرة كبيرة منها، مما حولها لشهور إلى ما يشبه الأطلال، وبقيت متواجدة بها فقط الثكنات العسكرية. وكما يؤكد تقرير حرره الطبيب العسكري الفرنسي الدكتور جون كانتيراك، فإنه كان لابد من تدخل حاسم للخبيرين العسكريين الفرنسيين (من فريق الماريشال ليوطي) هما إدموند وإتيان سيرجون، الذين أنجزا بحثا ميدانيا خلص إلى أن السبب في تفشي ذلك الوباء ليس طحالب ضفاف نهر سبو، بل البحيرات الصغيرة المشكلة على جنباته، فتقرر توجيه الجهد صوبها لمعالجة المياه الراكدة بها، مما كانت له نتائج بيئية حاسمة. وبالتوازي اتخذ القرار لتوسيع ذلك المستوصف الكبير، في انتظار بناء مستشفى أكبر بعد 1918 (تاريخ نهاية الحرب العالمية الأولى وتحرر الميزانيات العمومية الفرنسية من ضغط الحرب). حيث تمت توسعته إلى أربعة أجنحة، اثنان للطب المدني وواحد للطب العسكري وثالث للتشخيص والراديولوجي. وكانت تلك البناية غير بعيدة عن مقر الثكنة العسكرية في اتجاه المكان الذي تم فيه بناء قصر البلدية (مقر الحاكم الفرنسي) بعد ذلك. وأصبح يضم ابتداء من سنة 1917، قسمين للعلاج يضم كل واحد منهما 15 سريرا.

 

شرع في البحث عن فضاء مثالي لإنشاء مستشفى جديد، فوقع الاختيار على منطقة معزولة بقلب غابة المعمورة عند أطراف محطة القطار، حيث شرع في تجهيزها ابتداء من سنة 1918، وانطلقت أشغال البناء سنة 1919، وانتهت في أجزاء أولية منها سنة 1923، واكتمل البناء كله سنة 1929. أطلق عليه اسم "المستشفى المزدوج لبور ليوطي"، مما يفيد أنه أول مستشفى طبي حديث بني بالمغرب بهوية طبية عسكرية ومدنية في الآن نفسه، على مساحة كبيرة بلغت 20  ألف متر مربع. ومع مختبر تحاليل وأبحاث مزدوجة عسكرية ومدنية شكلت التجربة البحثية والطبية الوحيدة حينها بالمغرب كله. وسيلعب ذلك المستشفى دورا محوريا في علاج أغلب جرحى فرنسا من جنودها في حرب الريف ما بين 1925 و1926، اعتبارا للتجهيزات الطبية المتوفرة به، من قسم للجراحة حديث تماما وقسم للتصوير الإشعاعي، وقسم لتقويم العظام.

 

بالتوازي، وضمن مخطط حفظ الصحة لمواجهة مرض الزهري الذي كان منتشرا بقوة بالمنطقة وبالمدينة، بسبب أنها مدينة عسكرية بدرجة كبيرة (تضم العديد من الثكنات العسكرية المختلفة)، ومدينة عمالية أيضا بفضل الرواج الكبير لمينائها التجاري، ومدينة خدماتية بسبب إنشاء محطة حرارية بها ومحطة مركزية كبرى للماء الشروب (التي ظلت تزود المدينة وكذا العاصمة الرباط بالماء الشروب ولا تزال إلى اليوم). فإنه تقرر إنشاء حي خاص بالدعارة، جديد تماما، في أطراف المدينة، مراقب بقوة عسكرية، وبه مصلحة طبية للمراقبة والعلاج من مرض الزهري ومن باقي الأمراض الجنسية المختلفة، مما كان له أثر فعال في تقليص كبير لعدوى ذلك المرض الذي كان منتشرا بكثرة بالمنطقة.

 

أكثر من ذلك، سيتخذ القرار لتجريب أول سيارة إسعاف عبر الطائرة بمدينة بور ليوطي منذ سنة 1913، وتم خلق نقط إسعاف مركزية بكل من المهدية والمستشفى العسكري الأول ثم بالمستشفى المزدوج الجديد، كانت تضم بشكل مستقل 65 سريرا طبيا موزعا بينها، مما شكل تجربة فريدة في المغرب في مجال الإسعاف الطبي (ضمنه حتى الإسعاف الجراحي السريع). وتم في الآن نفسه، منذ سنة 1917 افتتاح ثلاث صيدليات كبرى بالمدينة (الصيدلية الفرنسية الكبرى للدكتور كاستيلانو. صيدلية البريد للدكتور ميجي. صيدلية ليبرتون للدكتور ليبرتون). وافتتحت بها عيادات طبية منذ 1915، أولها عيادات طب الأسنان للدكتور ريغو التي ظلت لسنوات من أكبر وأنظف العيادات الطبية المجهزة بالمدينة.

 

(في الحلقة القادمة تقرؤون: "مستشفيات فرنسية، إسبانية، إنجليزية وإيطالية بطنجة وتطوان منذ 1893")