الاثنين 22 ديسمبر 2025
كتاب الرأي

عبد السلام بنعبد العالي: صورتان عن الفكر.. الشجرة والجذمور

عبد السلام بنعبد العالي: صورتان عن الفكر..  الشجرة والجذمور عبد السلام بنعبد العالي

بين ما يرتفع عموديا وما ينمو أفقيا

 

يتضح لنا من قراءة كتاب "ألف بساط" أن الأهمية التي يوليها كل من دولوز وغواتاري لمفهوم الجذمور Rhizome تعود، أولا وقبل كل شيء، إلى معارضتهما نموذجي الجذر والشجرة اللذين طبعا الفكر التقليدي في مختلف مناحيه.

نعلم أن الجذر، سواء أكان وتديا أم حزميا، هو نظام نباتي يتطور على طول محور عمودي هرمي. هو "أصل" النبتة ومصدر نموها، واجتثاث النبتة من جذرها يؤدي، في معظم الأحيان، إلى ذبولها واندثارها. أما الجذمور فهو، في المقابل، نظام نباتي يتكاثر أفقيا، وغالبا تحت الأرض، وهو خال من المركز، أو، ما يعادل ذلك، له مراكز متعددة، فما إن نجتثه هنا، حتى يتدفق هناك. في هذا المعنى، يمثل الجذر صورة للأساس أو المبدأ الهرمي (الأرخي اليوناني)، بينما يقدم الجذمور، على العكس من ذلك، صورة للصيرورة أو الشبكة، ولكل تعددية ترفض المركزية والهرمية.

صورتان متعارضتان عن الفكر إذن: صورة الشجرة التي تعلو في استقامة، وصورة العشب الذي يتوالد بين الأشجار. مقابل الشجرة، هناك الريزوم.

 

مجاز الشجرة

ليست الشجرة هنا مجرد مجاز واستعارة، إنها كيفية عمل، وهي جهاز يغرس في الفكر كي ينبت في استقامة، ويثمر أفكارا تنعت بالصائبة. تنبت الشجرة انطلاقا من بذرة. إنها تتجذر في أصل، وتعلو صوب اتجاه عمودي واحد. وسرعان ما تغدو آلة للتفرعات الثنائية. الشجرة جذر وفروع، جذع وأغصان، ماض ومستقبل، إنها تكوين ونمو، تاريخ وتطور.

الأشجار لا تنفك تغرس في حياتنا ومعارفنا ورؤوسنا: شجرة الحياة، شجرة المعرفة، شجرة الأنساب. الجميع يبحث عن الجذور، الجميع يطالب بالتأصيل، والسلطات لا تنفك عن التشجير، تشجير الهويات والرؤوس والعقول.

الشجرة يحكمها منطق ثنائي. نقرأ في "ألف بساط": "الشجرة والجذر، من حيث هما شكلان، فإنهما ما يفتآن يفرضان قانون الواحد الذي يصير اثنين، ثم الإثنين اللذين يتحولان أربعة... المنطق الثنائي هو الواقع الفكري للشجرة-الجذر".

من حسن الحظ أن أعشابا تنبثق هنا وهناك، بين الأشجار، وحتى بين الأحجار. يورد كتاب "ألف بساط" هذا الاقتباس عن هنري ميلر:" لا وجود للعشب إلا بين الأماكن غير المغروسة. إنه يملأ الفراغات. وهو ينبت بين-بين... العشب تدفق، إنه درس في الأخلاق.

Haut du formulaire

 

Bas du formulaire

الأعشاب لا تزول بقطع جذورها، إذ سرعان ما تتجدد وتتدفق من أي نقطة صوب أي وجهة، فتفيض على الحدود وتغمر الآلات الثنائية، وفق خطوط لا تؤول إلى حركة نقطة، خطوط لا بداية لها ولا نهاية، خطوط هاربة، خطوط الهروب. لكنه ليس الهروب بعيدا، الهروب خارجا، إنها خطوط الهروب التي تشكل جزءا من لوحة الرسام. نقرأ في "ألف بساط": "ليس في الجذمور نقاط أو مواقع، على نحو ما نعثر عليه في البنية والشجرة والجذر. ليس فيه إلا الخطوط". فلا منظومة تراتبية، وإنما ترابط عشوائي وانقطاعات غير متوقعة، ومصائر لا تقبل أن تختزل في أحد طرفي الثنائيات، مصائر بينية لا انتقالية.

 

شجرة فورفوريوس

على رغم ذلك، فإن الجذر والشجرة هما اللذان شكلا، تاريخيا، نموذجا قويا لانبثاق الفكر الفلسفي. وربما لا يوجد في تاريخ الفلسفة مثال أوضح من أهمية "شجرة فورفوريوس"، التي تجسد منطق الجنس والفصل النوعي (ما يدعوه المناطقة بالخاصة) الذي صاغه أرسطو في "الأورغانون".

من المعروف أن هذا المنطق هو الذي سيغذي الفكر المدرسي في العصور الوسطى (كما في جدل الكليات، الذي كان حوارا مطولا مع أرسطو)، ثم هو الذي سيحفز الفكر التصنيفي في العصر الكلاسيكي (كما في تصنيفات ليني)، ليتغلغل لاحقا في النماذج التطورية في العصر الحديث (حيث يفهم التطور كعملية تشعبية تفرعية).

سادت هذه الصورة عن الفكر لمدة طويلة، وهيمنت على علم النبات والبيولوجيا وعلم التشريح، بل وحتى نظرية المعرفة واللاهوت والأنطولوجيا، والفلسفة برمتها: لهذا أكدت دوما فكرة الأساس-الجذر، الـ"أساس" (Ground)، والجذور (Roots) والأصول (Foundations). فلا غرابة أن يكون ذلك على حساب كل صورة مغايرة، وأن تظل المكانة الفلسفية لصورة مثل تلك التي سيرسمها الريزوم في وضع مهمش.

لا يولي صاحبا "ألف بساط" عنايتهما لا للأساس ولا للأصل ولا للغاية. ومن أجل ذلك، يقتفيان نموذج العشب "الرديء" الذي ينمو من وسط، ذلك النبات الأخرق الذي لا بداية له ولا نهاية، لا أصل ولا غاية.

مقابل النظام التراتبي الذي يفترضه مفهوم التشجير، حيث ينظر إلى الشجرة بعدها جذرا وفروعا، جذعا وأغصانا، ماضيا ومستقبلا، وضد مفاهيم التكوين والنمو والتاريخ والنشأة والتطور، ومقابل الشجرة التي تشكل محورا تنتظم حوله الأشياء في دوائر، وتعين نظاما من النقاط والأوضاع فتفرض منظومة تراتبية، وانتقالا لأوامر تصدر عن مركز، وتعمل وفق ذاكرة استرجاعية تؤطر الممكن، ضد كل ذلك، يقوم مفهوم الجذمور الذي يعين عالما ترتد فيه حقيقة الأشياء إلى علاقات وبينيات لا ترد إلى حدودها المكونة، فتضعنا أمام شتات، أمام ترابط ظرفي لا يخضع لمبدأ قار، ولا يستهدف غاية بعينها.

فلا منظومات تراتبية، ليس إلا نموا متفرعا ونظاما تعدديا وتراتبا عشوائيا وانقطاعات غير متوقعة. مصائر بينية لا ماضي لها ولا مستقبل، مصائر من غير ذاكرة. هي خرائط وليست مآثر، جغرافيا وليست تاريخا، رحلة وليست استيطانا. كل هذا هو الريزوم. أن تفكر في الأشياء، بين الأشياء، هذا هو الريزوم. ليس الجذر، إنه الخط وليس النقطة. إنه عمارة الصحراء، وليس الأنواع والأجناس والفصول النوعية وفق ما يمليه التفريع الشجري.

 

مفهوم الواحد

يفرض علينا الريزوم أن نتخلى عن نظام ينظر فيه إلى الكائن وفق منطق التفريع الثنائي، وفق الواحد والمتعدد. ذلك أن المسألة الأساس عند صاحبي كتاب "ألف بساط" لا تكمن في تحرير المتعدد، وإنما في توجيه الفكر نحو مفهوم متجدد للواحد. وهو، على حد تعبيرهما، "ليس واحدا ولا متعددا... وإنما صوت واحد للمتعدد الذي يتوفر على آلاف الأصوات".

نقرأ في "ألف بساط": "الجذامير جميعها مسطحة المستوى من حيث إنها تغطي أبعادها جميعها وتشغلها: يمكننا الحديث إذن عن بساط مشبع من التعدديات، رغم كون هذا البساط ذا أبعاد تقبل التزايد بحسب عدد الارتباطات التي تقوم فيه"...فـ"لربما كانت إحدى أهم خصائص الجذمور تمثل في كونه متعدد المداخل على الدوام".

لا ينبغي أن يقودنا تحليلنا إلى الاعتقاد بأن صورة الفكر هذه تنحصر في النباتات. نقرأ في "ألف بساط": "يتميز الجذمور كغصن جوفي تميزا مطلقا عن الجذور والنباتات الجذيرية... فحتى بعض الحيوانات هي كذلك، في شكلها الجماعي. الفئران جذامير، وكذا الحيوانات التي تعيش في الجحور، في جميع وظائفها في السكن والحصول على الطعام والتنقل والمراوغة والانفصال. يتخذ الجذمور في ذاته أشكالا شديدة التباين، ابتداء من انتشاره السطحي المتفرع صوب مختلف الجهات، حتى تصلبه على شكل بصلات وعساقيل. وكذا عندما تنزلق الفئران بعضها فوق بعض".كما أن صورة الفكر هذه لا تقتصر على الفلسفة، فقد نجد توظيفها حتى في الفكر السياسي. فالتعارض بين الجذمور والشجرة يأخذ عند دولوز وغواتاري منذ البداية صلاحية عابرة للتخصصات، تتجاوز الإطار النباتي، محررة هذه المفاهيم من أي حصر استعاري. في هذا الإطار يجب فهم تشخيصهما حرفيا حين يقولان إن أوروبا "فقدت الجذمور أو العشب"، وفي المقابل ما صاغه هنري ميلر: "الصين هي العشب الضار في حقل الملفوف البشري".

عن مجلة: المجلة