الجمعة 1 نوفمبر 2024
فن وثقافة

لحسن العسبي: كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ قصة ميلاد العيادات الطبية الخاصة بالدار البيضاء منذ 1907 (الحلقة 7)

لحسن العسبي: كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ قصة ميلاد العيادات الطبية الخاصة بالدار البيضاء منذ 1907 (الحلقة 7) عيادة طبية فرنسية بالدار البيضاء سنة 1919 وفي الإطار لحسن العسبي

تحيلنا جريمة قتل الطبيب الفرنسي بيير بونوا إميل موشان، يوم 19 مارس 1907، بمدينة مراكش، من قبل جمهرة من سكان المدينة، عند عتبة عيادته، بدعوى ممارسته للتجسس لصالح فرنسا، وأيضا ممارسته للتبشير المسيحي (وهي الجريمة التي كانت سببا في رد فعل عسكري فرنسي من الجزائر، تمثل في الهجوم على مدينة وجدة واحتلالها، بالتزامن مع احتلال مدينة الدار البيضاء في ذات السنة).. أقول تحيلنا، تلك الجريمة على ملمح آخر، قليلا ما سلط عليه الضوء، يتمثل في استقرار أطباء أجانب أوروبيين بالمغرب، قبل فرض الحماية على الدولة المغربية في سنة 1912، وهو الحضور، الذي دشن عمليا للبدايات البكر الأولى لاحتكاك المغاربة مع الطب الحديث.

 

صحيح، هي تجارب طبية فردية، غير مؤسساتية، لكنها على كل حال بداية جنينية لتواجد الطب الحديث بالمغرب. مما يجعلنا نطرح السؤال: كيف كانت وضعية أولئك الأطباء ببلادنا؟ ما كانت أدوراهم؟ أين كانوا؟ وكيف ولد الطب الخاص والعيادات الطبية بالمغرب؟

 

في وثيقة عبارة عن تقرير موقع من قبل الدكتور فريديريك بيانفوني (الذي كان طبيبا تابعا للمؤسسة الخيرية "قطرة حليب"، والتي لا تزال قائمة كمؤسسة تعنى برعاية الأطفال الفقراء والمتخلى عنهم إلى اليوم بعدد من المدن المغربية ضمنها الدار البيضاء)، نقف على تفاصيل مدققة، بالأسماء والتواريخ لتلك التجربة الطبية الخاصة بالمغرب، منذ ما قبل 1912. وتأتي أهمية تلك الوثيقة أيضا، من الدور النقابي الذي لعبه ذلك الطبيب الفرنسي في تأسيس أول "نقابة  طبية للمغرب" سنة 1913، التي سنكتشف من خلالها الخلاف الذي كان قائما بين الطب العسكري والطب المدني الفرنسيان ببلادنا، وسيادة الأول على الثاني، ابتداء من سنة 1914، مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، حيث صدر القرار بتجنيد الجميع ضمن واجب الخدمة العسكرية، وتحويل نقابة الأطباء تلك إلى مجرد جمعية مهنية تنظيمية.

 

كان مدار التجربة والصراع ذاك، هو مدينة الدار البيضاء، منذ 1910. لأنها المجال الجغرافي الذي أصبح موضوع رهان استراتيجي لدى الدولة الفرنسية، ضمن خطتها لاحتلال المغرب منذ سنة 1900، والتي لم يسمح لها بتنفيذها كما تشاء (وبالسرعة المرجوة كما حدث في تونس سنة 1882)، بسبب معارضة بريطانيا لمنح باريس فرصة التحكم في كل الشمال الإفريقي الغربي من تونس حتى مضيق جبل طارق. لأن ذلك سيمنحها الإمكانية لتصبح القوة الأولى في أوروبا وفي كامل البحر الأبيض المتوسط. ولن يقع التحول سوى بعد توقيع اتفاقية سرية بين البلدين في سنة 1904، عرفت باتفاقية "لانزدوون وديلكاسي" (وزيرا خارجية البلدين)، التي تنازلت لندن بموجبها عن المغرب لصالح فرنسا (بشرط منعها من طنجة التي ستبقى منطقة دولية عند مضيق جبل طارق، ومنح الشمال لإسبانيا)، في مقابل تنازل فرنسا عن مصر والسودان لصالح بريطانيا. وهي الاتفاقية السرية عمليا التي مهدت لانعقاد مؤتمر الجزيرة الخضراء حول القضية المغربية سنة 1906، بالشروط التي صدرت عنه، كان فرض الحماية تجليها الأكبر.

 

بالتالي، كانت الدار البيضاء رهانا استراتيجيا فرنسيا، جعل مدار التجربة الطبية الحديثة، كما نفذها الاستعمار الفرنسي، يكون بها، وليس بطنجة التي تعتبر عمليا أول جغرافية مغربية شهدت ميلاد مؤسسة خدماتية طبية فرنسية وإنجليزية منذ نهاية القرن 19، ضمت طبيبين فرنسيين هما الدكتور فوماي وكابانيس. وتلاهما إنشاء أول مختبر تحليلات عصري هو معهد باستور - طنجة بالمغرب سنة 1910، تحت إشراف وإدارة واحد من أهم خبراء الأوبئة الفرنسيين الدكتور ريملينغر، الذي بقي يديره حتى سنة 1956.

 

كانت خريطة الحضور الطبي الفرنسي الخاص، قبل 1912 (أي عيادات طبية صغيرة) موزعة على أغلب المدن الشاطئية للمغرب، حيث نجد الدكتور برولت بالعرائش، الدكتور آزيمار بالدار البيضاء، الدكتور مير بآسفي، الدكتور غيشار بمراكش، الدكتور موران بالرباط، الدكتورة لوجي بسلا، الدكتور مورات والدكتور ميناديي بفاس. وجميعهم كانت لهم مهام مزدوجة، طبية (خاصة للأجانب الأوروبيين وبعض من المغاربة من التجار ورجال السلطة وكبار الفلاحين)، ومهام ديبلوماسية، كونهم كانوا يمثلون أيضا مصالح بلدانهم في المدن التي يتواجدون بها. وابتداء من سنة 1912، سيتعزز ذلك التواجد الطبي الخاص بالدار البيضاء، فيما سيتلاشى في باقي المدن الأخرى لعقد من الزمن قبل أن يعود بقوة، بسبب تغير الإطار التنظيمي الإداري الذي فرضه الدخول الاستعماري الفرنسي إلى المغرب. حيث سجل التحاق ثلاثة أطباء فرنسيين جدد بالمدينة القديمة للدار البيضاء، بالدكتور آزيمار، واحد منهم هو الدكتور فريديريك بيانفوني، إضافة لطبيبين إسبانيين هما آزنور إريكو وبينتيز، وطبيب إيطالي اسمه  كاسوتو، وطبيب ألماني اسمه دوبير. فأصبح مجموع أولئك الأطباء بالدار البيضاء سنة 1912 هو 8 أطباء أجانب، خارج الإطار الطبي المؤسساتي للمستشفى العسكري الفرنسي الذي أنشأ سنة 1911.

 

كان الدكتور آزيمار (الذي هو أقدمهم)، يشتغل في شبه عيادة بسيطة بمنزل مغربي عند قوس باب مراكش بالمدينة القديمة، في زقاق صغير سيحمل إلى اليوم اسم "دار الطبيب". وكان قد تمغرب تماما من حيث أسلوب حياته اليومي، كونه تعلم الدارجة المغربية، وأصبح يرتدي اللباس المغربي، ويتكيف طبيا بما كان يتوفر عليه من أدوات عمل ورثها عن القنصلية الفرنسية وطبيبها هنري دو روتشيلد، سعى من خلالها إلى المساعدة في علاج موجات الأمراض والأوبئة التي كانت تجتاح ساكنة الدار البيضاء القديمة حينها. وكما يصف في تقريره الدكتور فريديريك بيانفوني، فإنه كثيرا ما كان يصدم حين يجد الدكتور آزيمار، في ساعات فراغه، جالسا عند عتبة البيت المغربي حيث تتواجد عيادته الطبية يتناول الشاي ويتناقش مثل أي مغربي (من الأهالي) مع صديقه المغربي صاحب البقالة المقابلة، السيد سعيد، المنحدر من سوس، وأن جزء من حديثهم يكون بالأمازيغية.

 

في تلك العيادة الصغيرة سيبدأ الدكتور بيانفوني أولى تجاربه الجراحية البسيطة، التي حولها مع توالي الشهور إلى عيادة طبية حديثة بتجهيزات جديدة، مكنته أن يصبح الطبيب الرئيسي الذي تلتجئ إليه الساكنة المحلية من المسلمين واليهود، بمقابل مادي قار، بينما كان الأوروبيون يستفيدون من خدمات المستشفى العسكري بالسور الجديد، الذي كان ممنوعا على المغاربة. قبل أن ينتقل إلى زنقة طنجة بالمدينة القديمة، حيث سيفتتح عيادة جديدة أكبر، بتجهيزات طبية أهم، حولها أيضا إلى مقر لنقابة الأطباء بالمغرب، تضم أطباء فرنسيين وإسبان وإيطاليين، حوربت من قبل الإقامة العامة الفرنسية، وتحولت إلى مجرد جمعية مهنية أشبه بناد في المرحلة ما بين 1914 و1918، تاريخ الحرب العالمية الأولى، بسبب فرض الأحكام العسكرية.

 

سيلتحق فريق جديد من الأطباء ابتداء من سنة 1917، بالدار البيضاء (بعضهم استقر في ما بعد بمدن الرباط وفاس ومراكش وسلا والقنيطرة)، مما عزز من شبكة العيادات الطبية الخاصة بالمغرب، في منطقة النفوذ الفرنسي، كان من حسن حظهم أن الماريشال ليوطي سيكلف الدكتور برون للإشراف على تنظيم جهاز الطب بالمغرب، من خلال بلورة آلية تنظيمية تدبيرية وإدارية هي النواة الأولى لـ "مصلحة الطب والمحافظة على الصحة بالمغرب"، الذي كان له الفضل في التنسيق مع ذلك الإطار الجمعوي (النقابي) للأطباء الخواص، مكن من إدماجهم ضمن المنظومة الطبية بالمغرب ابتداء من سنة 1919. مما كانت نتيجته حسن التنظيم والتنسيق بين مختلف الأذرع الطبية الفرنسية والأوروبية بالمغرب، مكن من ضبط خريطة الأمراض ومن تنسيق العمل لمواجهتها، وهو الأمر الذي سيتكامل مع ميلاد قطاع طبي آخر مهم هو قطاع الصيدلة.

 

بدأت من حينها، تولد في الخطاب العام الشعبي بالدار البيضاء وبباقي المدن المغربية الكبرى، أسماء أطباء أعلام، يشار إليهم بالحجية والاحترافية حسب تخصصاتهم، فأصبح يقال "عيادة فلان" بالحي الفلاني، و"عيادة فلان" بالحي الفلاني وهكذا. كان ذلك تدشينا لواقع طبي حديث جديد بالمغرب، من قلب ما يمكن وصفه بـ "الطب الخاص" توازى مع بروز "الطب العمومي" من خلال إنشاء المستشفيات العسكرية ثم المدنية بالمغرب منذ سنة 1911. ولعل من أقدم تلك العيادات التي توسعت بالدار البيضاء في بداية الثلاثينات وأصبحت مصحة متعددة التخصصات، ولا تزال قائمة إلى اليوم، هي مصحة مرس السلطان في نهاية العشرينات، التي رأت النور غير بعيد عن بناية المستشفى العسكري الجديد بذات الحي والذي افتتح أبوابه في سنة 1931.

 

(في الحلقة القادمة تقرؤون: مصالح الصحة المينائية ودور الدعارة وحماية الطفولة شيء جديد بالمغرب منذ 1915)