الجمعة 1 نوفمبر 2024
فن وثقافة

"المغرب الذي كان".. عودة إلى أخبار "الريسولي" ووقوع والتر هاريس في الأسر (21)

"المغرب الذي كان".. عودة إلى أخبار "الريسولي" ووقوع والتر هاريس في الأسر (21) من اليمين: هشام بنعمر بالله، الريسولي ووالتر هاريس

اختارت جريدة "أنفاس بريس" طيلة شهر رمضان أن تقدم لكم بعض المقتطفات من الترجمة العربية التي قام بها الأستاذ هشام بنعمر بالله لكتاب "المغرب الذي كان" للصحافي البريطاني "والتر هاريس" الذي عاش في طنجة ما بين سنتي 1887 و1921 وعاصر أهم الأحداث التاريخية التي عاشها المغرب نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

الكاتب الصحفي البريطاني "والتر هاريس" ولج البلاطُ الحسني بوساطة من الحراب البريطاني "السير ماك لين" الذي استقدمه السلطان الحسن الأول لتطوير الجيش المغربي.

كان يتستر تحت غطاء الصحافة مراسلاً صحفياً لجريدة "التايمز" في طنجة لمزاولة مهام استخباراتية دنيئة، وخدمة المصالح القنصلية البريطانية والفرنسية، حيث رافق الكثير من السفارات الأوروبية إلى البلاط المغربي. وخلال مقامه الممتد في المغرب ما بين 1887 و1921 بالمغرب ظلَّ يتقرب من مختلف الدوائر والمؤسسات المؤثرة في مغرب نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وقد عاصر ثلاث سلاطين وتمكن من نسج علاقات مع مكونات المجتمع المغربي (وزراء وموظفو المخزن الشريف، وشيوخ القبائل والزوايا الدينية، بالإضافة إلى اللصوص وقطاع الطرق، وعموم الناس...).

الكتاب حسب المترجم "يرسم صورة قاتمة عن نهاية المخزن المغربي (التقليدي) أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وسقوط المغرب في قبضة القوى الاستعمارية الغربية. سقوط يسعى الكاتب من خلال مؤلفه المذكور (المغرب الذي كان) بقليل من الموضوعية إلى تبيان أسبابه ومظاهره بأسى شديد".

ونشر الكتاب لأول مرة باللغة الانجليزية تحت عنوان مثير (Moroccothatwas) الذي ارتأى الأستاذ هشام بنعمر بالله ترجمته بالعربية بـ (المغرب الذي كان)، عن دار النشر William Blackwood And Son بلندن سنة 1921 بينما صدرت ترجمته الفرنسية عن دار بلونPlon سنة 1929 لبول اودينو Paul Odinot تحت عنوان طويل:

Le Maroc disparu (Anecdotes sur la vie intime de MoulyHafid, de Moulay Abd El Aziz et de Raissouli)

وقد اعتمد الأستاذ هشام بنعمر بالله في الترجمة بالأساس على النسخة الفرنسية التي ذكرناها مع الرجوع، في أكثر من مرة، إلى النسخة الأصلية باللغة الإنجليزية كلما بدا له الأمر ضرورياً لتصحيح الترجمة العربية لتبدو أمينة قدر الإمكان. واختار لها عنواناً "المغرب الذي كان" لأسباب لا يسمح المقام للخوض فيها و مناقشتها.

 

رَجع مرة أخرى إلى مسقط رأسه، وكان قد عقد العَزم أن يعُود إلى الحياة الهادئة والآمنة، غير أنه وجد صديقه الخائن الذي باعهُ للمخزن، قد عُيِّن في منصب عاملٍ على مدينة طنجة، وحازَ كل أملاكه. سعى إلى استرجاعها، غير أنَّه لم يحصُل على شيءٍ يُذكر. تَوعَّد لكن تمَّ استصغاره والاستهزاء به. فعَاد إلى سيرته الأولى: قَطَّاعَ طَريقٍ.

 

تًعرَّفتُ على "الرَّيسولي" في ظُروف خاصة جداً. حَدث في إحدى المرَّات أن خيَّمتُ قُرب أصيلا في أثنَاء رحلة صيد. جَاء إلى هناك رفقة رجاله لزيارتي، وقضاء الليلة في مخيمي.

 

أعترف أنَّه ذو شخصية جذَّابةٍ، طويلُ القامَة وبِجسمٍ مُمتلئٍ. ذو بشرةٍ بيضاء. بشاربٍ ولحيةٍ سَوداء كثَّةٍ. هيئتُه إغريقيَّة أكثر منها لرجُل سامٍ. له حاجبان سوداوان يشَكلِّان لحيةً على الجبهة. كانت لمولاي أحمد الرَّيسولي هَيئةُ قَطَّاع طَريقٍ.

 

هادئٌ وله صوتٌ رَخيمٌ وخَاِفتٌ. قَسماتُ وجهه حزينة. كان ناذر الابتسامة ولا يمازح رجاله. كان مُنزَوياًّ وبَعيداً عن الرِّجال الذين يُعاملونه باعتبارٍ واحترامٍ لأنَّه شريف.

 

عندما التقيتُ به في المرَّة الثانية، كُنت أسيرهُ في قلعَة "الزينات" التي تبعُد عن طنجة بحوالي اثنا عشر مِيلاً.

 

في فبراير 1903م، تغيَّر الرجل كثيراً حيث أصبح بَديناً [مُكتنِزاً]، وفمُه أكثر صلابة، لكنَّه أنيقٌ جداً. قبل أيامٍ قليلة من أسري، سلَّم الرَّيسُولي أحد أعدائِه مُقابل 1500 جنيه إسترليني، واشتَرط أن يتكفَّل من اشتراه بحزِّ حُنجرته.

 

رُغم توالي أعمَال سَرقة المواشي، والإغارة على الأهالي، لم يَكترث أحدٌ لأمر "الرَّيسولي"، رغم مُحاولات المخزن العديدة لاعتقاله.

 

في 16 يوليوز 1903م، أغارت المحلَّة السلطانية على "الزينات"، وأَحرقَ الجُنود كلَّ شَيءٍ. في أثناء هذه العمليَّة العسكرية احتُجزتُ من طرف رجال "الرَّيسولي". كُنت قد أخبرتُ بوقُوعِ عملية عسكرية في المنطقة الواقعة على بعد ثمانية أو تسعة أميال. قَصدتُ المكان عند حُدود منتصف النَّهار، رُفقة خادمٍ لي من أهالي "الزينات". كان مرافقي مشغُول البَال على أسرته. فقد دفعت الأعمال العسكرية سُكان القرية إلى المُغادرة. أَلفيتُ المكان مُقفراً، فقد غادر البدو إلى مرتفعات "الأنجرة" مع قُطعان الماشية، وكل ما أمكن حمله من الثَّروات.

 

رغم أن الأعمال العسكرية كانت تهدفُ إلى القبض على "الرَّيسولي"، إلاَّ أن افراداً من الجيوش المخزنية تجرَّدُوا لأعمال النَّهبِ و السَّلبِ، حيث عمدوا إلى سرقة قُطعان الماشية من القُرى البعيدة عن إثارة الفوضى، والتي لم تكُن تَدعمُ بالمرَّة الرَّيسولي.

 

لم أكُن أملكُ المعلُومات الكافية عن سير الأعمال العسكرية في "الزِّينات"، فقرَّرت الاقتراب أكثر من ساحة المعركة. دفعني إلى ذلك أيضاً رغبةُ خادمي القلق على مصير عائلته. وصلنا إلى مرتفعات "الزينات" التي تُشرف على ساحة العمليات عبر مُنبسطٍ تتخلله أشجَار الدَّفلى الورديَّة. كانت البِلاد خاويةً لا يظهرُ فيها أثرٌ لآدميٌّ أو حيوانٌ.

 

عند عُبورنا السَّهل، تعرَّضنا لوابلٍ من الطلقات النارية من حاجز مُرتفعٍ مُعدٍّ من أكوام حجارة وأحراش. مرَّت قُرب رُؤوسنا رصاصات، بل أن بعضاً منها سَقط بالقُرب منَّا.

 

تَراجعت خيولنا بسُرعة، وتوقفت بنا أمام التَّلة القريبة إلى حقول القمح. حينما استدرتُ لاستكشِف ما الذي يقع في الخَلف، رَمقتُ أربعة رجالٍ من البَدو يُلوحُون بعمائمهم (برزَّاتِهم) وملابسهم كإشارة لنا بالعودة -في المغرب تعني هذه الإشارة "الأمَان" و"الثِّقة"- توقَّفتُ أنتظِر وصُولَ هؤلاء الرجال الأربعة. اقترَب منَّا اثنان منهُم فقط، أعرفهم جَيِّداً، اعتذرا عن عُنف الأهالي الذين رَمونا بالرَّصاص. ثم طلبَا منَّا أن نُرافقهم إلى "الزينات" للحديث عن الأوضاع.

 

كانُوا من أهالي القُرى القريبة من المرتفع، والتي لم تشارك في الاعمال العسكرية. نزلوا إلى "زينات" لتحرِّي أمر الفِرقة العسكريَّة التي سَلبت منهم الماشيَّة. أَكَّدُوا لي أن غايتهم التَّعرفُ على نوايا الجيوش المخزنية، وحاجتهم لاستعادة المواشي. أخبروني أن القبيلة [الأنجرة] على أُهبَة الاستعداد للمُقاومة والدِّفاع عن النفس، إذا ما فكَّر المخزن في مُعاودة الإغارة عليهم. أما إذا تعلَّق الأمر باعتقال الرَّيسولي فقط، وإذا كانت سرقة مواشيهم أمراً طارئً [وغير مدبَّرٍ]، فإنهم يُطالبون المخزن بإرجاعها لهم، الأمر الذي بدا لي منطقياً، ثم أضافوا أنهم يَخشون الذهاب إلى طنجة مَخَافَةَ أَنْ يلقى عليهم القبض. طلبوا مني أن أنقُل مطالبهم إلى المخزن، كما كنت أفعل في الماضي.

 

التزمَت المجموعة بتأْمين عُبوري، فغادرتُ برفقتهم للقَاء ثلاثة أو أربعة رجالٍ من شُيوخ القبيلة. في الطريق، تمَّ إلقاء القبض عليَّ.

 

عبرنا وادياً صغيراً تُغطِّيه أشجار الدفلى الوردية، عندها اكتشفت أني وقعت في كمين. ويبدو الخروج منه شبه مُستحيل، كما أن المواجهة تبدو غير ممكنة، لأني كنت أعزل. بَرز المُحاربون من كُلِّ صوبٍ. وبعد لحظَاتٍ قليلةٍ أحاط بي ما يربو عن ثلاثين أو أربعين رجلاً مُسلحاً بطريقةٍ جيدةٍ حاملين بنادق أوروبية. لم أتعرض لسوء معاملة، غير أنهم أخبروني أنني مُحتجَزٌ لديهم، ويجب أن أرافقهم إلى "الزِّينات".