الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
منبر أنفاس

ليلى أشملال: من يوميات رجل.. الكلب بوتشي يشاهد التلفاز

ليلى أشملال: من يوميات رجل.. الكلب بوتشي يشاهد التلفاز ليلى أشملال

الواحدة بعد منتصف الليل، عقارب ساعة وأعقاب سجائر، وأوراق بيضاء مازالت تنتظر نقاط حبر، لا شيء الآن يغريني بالكتابة...

 

أشعل سيجارة وأراقب الكلب بوتشي، وهو يلعب بقطعة ثوب لا أدري من أين أتى بها، تصلني من بعيد كلمات أغنية للفنانة صباح:

"ساعات ساعات أحب عمري وأعشق اليوم اللي فات..."

 

من هذا الذي يحن للماضي بعد الواحدة من منتصف الليل؟؟

 

أطل من النافدة، لكن لا ضوء يتبين لي في العمارة المقابلة، الأنوار مطفأة، يبدو لي أن هذا الشخص لفرط وجعه واشتياقه للماضي أحب الإنصات لهذه الأغنية في ظلام الليل دون أن يبعثر صدى الذاكرة بإنارة كاذبة...

 

أعود للجلوس على الكرسي المهترئ بعد أن صببت لي كأسا من القهوة التي لا نية لي في إعادة تسخينها، يبدأ بوتشي بالنباح كأنه أود أن يخبرني أنه يريد أن يشاركني طعم القهوة المرة كما شاركني ليلة أمس الفودكا الذي ما زال وجعها يعبث برأسي المثقل بالأفكار، أشعل السيجارة الثامنة، عقارب ساعة تشير إلى الثالثة بعد منتصف الليل وكلمات أغنية مازالت تصلني من بعيد؛ ساعات ساعات...

 

استيقظت متأخرا، قررت البقاء في المنزل هذا اليوم، لا لشيء ولكن فقط لأرتاح قليلا من صخب الحياة، مازالت الأوراق تنتظر قليلا من الحبر ليؤنس وحدتها ويخدش بياضها، ومازال شكلها هكذا فوق المكتب لا يغريني بالكتابة؛ ضجيج المارة وأصوات وسائل النقل يزعج لحظة اختلائي بالصمت، يبدأ الكلب بوتشي بالنباح مرة أخرى ويهرب ما تبقى من الصمت بعيدا...

 

أشعل التلفاز لهذا المخلوق الصغير الذي أراه يفوق كونه مجرد كلب عادي، يكف عن النباح وينشغل بما يبثه هذا العالم البائس عبر قنواته التلفزية الرخيصة ليمنح لنا شيئا غير الواقع، فالحقيقة كانت ولا تزال ممنوعة من العرض على الشاشات، والشعب من حقه أن يرقص فقط على أنغام "البروبغاندا"، الشعب أيضا مشغول عن الحقيقة بالبحث عن لقمة العيش في وطن بائس..

 

أتفحص بعض الصور على جهاز الكمبيوتر، وأرتشف ما تبقى في الفنجان من القهوة ثم يذهب بي النوم إلى عالم آخر بعدما أرهقني ضجيج الذاكرة...

 

الساعة الثامنة مساء، أيقظني نباح بوتشي؛ يبدو لي أنني نمت ما يقارب الثلاث ساعات والنصف، وليس من عادتي أن أغرق في النوم هكذا وفي هذا الوقت المبكر.. بوتشي يحاول اللعب هنا وهناك مبديا لي ملله من التلفاز الذي جعلته يصمت للتو، أتوجه نحو المطبخ لأحضر فنجان آخر من القهوة المرة، أطل من النافدة وأشعل سيجارة لأطفئ لهيب الذاكرة، لطالما أعجبني منظر النجوم التي تزين السماء ليلا، وذلك السواد الذي يخفي تحت عباءة الظلام الكثير من الأسرار والكثير من الحكايات أيضا...

 

يفاجئني بوتشي من الخلف، أنحني لأملئ صحنه ببعض الطعام، ثم أرجع للنظر من النافدة لعل الصمت يأتي مجددا وأتساءل:

كم يلزمني يا ترى من كوب قهوة لأملأ فراغ الغياب!؟...