الخميس 28 مارس 2024
اقتصاد

متى سيتم الالتفات لـ "متصوفة" صناعة تحف الخزف الفنية بأسفي؟

متى سيتم الالتفات لـ "متصوفة" صناعة تحف الخزف الفنية بأسفي؟ نماذج من التحف الخزفية وفي الإطار الحريفي لمعلم مصطفى النحيلة

تشكل تحف صناعة الخزف بأسفي ركيزة أساسية في الصناعة التقليدية المغربية، لكن في الوقت الذي يتقاتل فيه صناعها وحرفيوها من أجل رفع شأنها والمحافظة على تراثها، نجد "منتخبين" في القطاع لا يولون أي أهمية لجدول أعمال متطلبات مستعجلة لهؤلاء الصناع، بل إن شغلهم الشاغل هو ضمان سفريات بالخارج للاستمتاع والتجوال، دون تحقيق تطلعات شريحة أفنت عمر شبابها في تأثيث فضاءات ومعارض وأروقة وبيوت الناس بقطع خزفية غاية في الجمال والسحر.

 

إن الولوج عبر بوابة باب الشعبة، يعتبر مدخلا أساسيا لفتح صندوق أسرار كنوز حاضرة المحيط، وعلاقتها بصناعة الخزف، التي حمل مشعلها لمعلمين الأوائل، واستطاعوا أن يبصموا خزف عاصمة السمك بالعالمية من خلال تطويع الطين بأيادي التشكيل الجميل، والزواقة المبهرة التي ترسمها أصابع صانع الخزف بريشة الإبداع المخضبة بالألوان البهية الساحرة. دكاكين ورشات فن الخزف بباب الشعبة وتل الخزف، مشرعة أبوابها لاستقبال الزوار من سياح مغاربة وأجانب، بعد أن تسلل لها ضوء أشعة شمس فبراير الدافئة، ورائحة الشاي الممزوجة بدخان أفرنة الطين تستقبلك بين ضفاف القطع الخزفية المصففة بعناية فائقة، و تنتظر من يلامس جمالها وينفض عليها الغبار، ويقدم التحية لمن تفنن في خلق نماذجها بمختلف الأشكال الهندسية، وطليها بأروع الرسومات التي تعطي للحياة معنى جمال الصناعة التقليدية المغربية التي تحكي سيرة الأمكنة والأشخاص وإبداعاتهم التي تألق فيها الرواد.

 

عيون الصناع تتبع خطوات الزوار وهم يسترقون النظر بإبهار أمام علو كعب هؤلاء الفنانين الذين يحرصون على التميز في حضرة الطين والألوان والرسومات الجميلة التي وضعت على تحف فنية من مزهريات ولوحات وأطباق وصحون وكؤوس وجرار، طينية وخزفية ناطقة بالحيوية ومفعمة بالحياة، تستحق أن تقدم كهدايا ثمينة تعبر عن حضارة مدينة ساحلية بصم الصانع التقليدي ميزتها التراثية الأصيلة.

 

استقبلنا الصانع "لمعلم الزواق" مصطفى النحيلة (الملقب بجعفر) بابتسامة توحي بأن الرجل من طينة ناس عبدة الطيبين والكرماء، ولم يتردد لحظة في الموافقة على تصويره والحديث معه حول "حرفة العملي" التي مارسها أكثر من 65 سنة، بعدما توقف عن مساره الدراسي سنة 1962، ليلج عالم الفخار والخزف، ويتفنن في رسم أجمل الرسومات "الزواقة" مستعملا ألوان الطبيعة الباهرة، "لقد عايشت أهرامات صناع الفخار والخزف بأسفي، الذين عرفوا بمهاراتهم وعلو كعبهم، من أمثال أفراد عائلة السرغيني وأعمامهم، والجيلالي الزيواني الذي صقل موهبته بأوروبا... واكتسبت منهم جديتهم في العمل وحبهم للحرفة بشرف وألق، والرفع من شأنها كحاضنة للسياحة باسم الصناعة التقليدية المغربية"، يقول مصطفى النحيلة الذي رأى النور بمنطقة ثلاثاء بوكدرة سنة 1947.

 

وفي سياق حديثه عن متطلبات الإبداع أوضح (لمعلم الزواق) بأن "الصانع التقليدي بأسفي الذي يشتغل بورشته الفنية بقطاع الخزف، يحتاج للدعم والمؤازرة اجتماعيا وإنسانيا، ويتطلع بأمل إلى من يأخذ بيده في هذا الزمن الصعب، وينتظر دائما المبادرات الإيجابية من الجهات الوصية لتشجيعه لكي يضمن قوت عيشه اليومي ويكافح ضد الملل والألم.. وفي نفس الوقت ليحافظ على موروث صناعة الفخار (العملي) ومنتوجاتها الأصيلة التي بصمت حاضرة المحيط بجودتها، وبجمال قطعها الخزفية التي تغزو الأسواق العالمية، نظرا لتميزها بأشكالها الهندسية المتميزة وألوانها ورسوماتها المتناسقة المبهرة".

 

وجوابا عن إكراهات الإبداع في صناعة الخزف، شدد الصانع التقليدي النحيلة مصطفى على "تفاعله الإيجابي والمفرح مع مبادرة الملك التي دعت الحكومة إلى دعم الصناعة التقليدية وحرفييها البسطاء، وتشجيع وتثمين المنتوجات الحرفية، وتسهيل سبل الدعم المادي للصناع والحرفيين من طرف الأبناك لتوسيع فضاءات عملهم ومقاولاتهم الصغيرة".

 

ورغم كبر سنه (73 سنة) وتراجع بصره إلى مستوى لا يطاق، حيث يستعمل نظاراته الطبية، ويتحمل مسؤولية إعالة أسرة بكاملها، مازال الصانع مصطفى النحيلة قادرا على مقارعة الريشة وألوان الصباغة، ورسم أبهى الرسومات على قطعه الخزفية التي يتعامل معها بسخاء وصبر لتجاوز مخاض الولادة العسير، و تصل أعماله الجميلة للسائح المغربي والأجنبي بصورة جيدة ومشرفة.

 

 

في محرابه الصوفي، يجلس الصانع مصطفى النحيلة على كرسيه الذي لا يشبه كراسي الريع الوتيرة، وتحيط به تلك القطع الخزفية وسط ورشته المتواضعة، حيث يبدو كسلطان أنيطت به مهمة الدفاع عن صناعة الخزف التي وثق روابطها الحميمة روحيا مع الطين والنار والريشة، من خلال حسه المرهف الذي يزوده بمنسوب الإبداع المتفجر من بين أنامله، للتعامل معها برفق ودعة ورأفة، حتى تجد مكانتها بين السلع المعروضة ذات الجودة العالية.

 

وعن الخلف من أفراد أسرته قال "ابني الوحيد مراد النحيلة لم يستسغ العطالة رغم حصوله على الباكالوريا، وديبلومات في المعلوميات والتكوين المهني، وقرر الولوج لمدرسة الصناعة التقليدية لتعلم مبادئ صناعة الخزف وأصول الحرفة"، يقول مصطفى النحيلة مؤكدا على أن "توريث فن صناعة قطع الفخار للشباب وتعليمهم جمالية الزواقة والرسم الأصيل، مهمة حضارية وتراثية وإنسانية لضمان استمرار هذه الحرفة المتجذرة في تربة أسفي".

 

تجارة الفخار تزدهر في مواقيت مضبوطة بالنسبة للحرفين، حيث أن "فصل الصيف يشكل فرصة سانحة للزوار المغاربة والسياح الأجانب للتبضع واقتناء قطع فخارية، ونعتبر زمن موسم الصيف سانحة للرواج التجاري لدى عامة الصناع التقليديين... مقابل ركود وبوار خلال فصلي الخريف والشتاء، وتزامنها مع أعياد ومناسبات تستنزف رصيد الصانع بشكل رهيب"، يستطرد موضحا في توصيف وتيرة العرض والطلب في علاقة مع متطلبات صعوبة الحياة.