الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

محمد بوبكري: الفكر والإبداع وقضايا الحياة

محمد بوبكري: الفكر والإبداع وقضايا الحياة محمد بوبكري
لا يستطيع البحث العلمي أن يفعل شيئا للجياع، وإذا فعل، فإن ذلك سيكون قليلا، وقد يخفق في القيام باكتشافات علمية إذا اقتصر نشاطه على ذلك، حيث لا يمكن أن تحدث هذه الأخيرة إلا إذا كان البحث العلمي خاليا من أي هدف نفعي، ويروم فقط حب الاستطلاع وإشباع الفضول المعرفي...
وتجدر الإشارة إلى أن البحوث التي لم يكن حافزها اجتماعيا أو سياسيا... كانت لها، في أغلب الأحيان، تطبيقات اجتماعية واقتصادية... مفيدة.
وقد أدركت الشركات الصناعية الكبرى أنه من المربح لها تمويل البحث العلمي والتخلي عن توجيهه نحو أهدافها وخطها في العمل. ويرجع ذلك إلى أن منح كامل الحرية للباحثين لإشباع فضولهم المعرفي قد تكون له مردودية أكثر...
وتنطبق هذه المفارقة كذلك على الأدب. فقد مارست أعمال الروائي الروسي الكبير تولستوي تأثيرا كبيرا على الأغنياء، حيث أيقظت ضميرهم، فجعلتهم يضحون بامتيازاتهم من أجل إصلاح المجتمع وإطعام الجياع.
يمكن تقسيم حياة تولستوي إلى مرحلتين مختلفتين. ففي المرحلة الأولى، كان تولستوي يكتب بعفوية وازعها الإبداع الأدبي. لكنه سرعان ما انقلب على ذاته، ودخل مرحلة ثانية تعكس تغيرا في موقفه من الحياة، إذ أصبح يرى أن إنتاج الفن من أجل الفن هو مجرد انغماس في الذات تنجم عنه اللامبالاة بقضايا المجتمع... وهكذا خلص هذا الكاتب الكبير في هذه المرحلة إلى أنه على الأديب أن يكرس إبداعه لخدمة الخير الاجتماعي، الأمر الذي حول إبداعه إلى أدب نفعي.
وتجدر الإشارة إلى أن أعمال المرحلة الأولى لم تكن متميزة عن أعمال المرحلة الثانية على مستوى الجودة الأدبية، لكن تأثيرها الاجتماعي كان أقوى. فقد أحدثت مؤلفات المرحلة الأولى نتائج اجتماعية ناجمة عن الأثر الفعال الذي خلفته ميزتها الأدبية في القراء، الأمر الذي ألهمهم ضمنيا، فدفعهم إلى محاولة إصلاح المجتمع.
لقد سار الاتحاد السوفياتي على نهج المرحلة الأخيرة من حياة تولستوي، فتم اعتناق ضرورة تسخير العمل الأدبي لصالح الخير الاجتماعي. لكن مفهوم "الخير الاجتماعي"عند الشيوعيين ضيق ومخالف لمفهومه عند تولستوي؛ فهو يعني عندهم تكريس الإيديولوجية الشيوعية وترسيخ سلطة الحكومة السوفياتية... وهذا ما تسبب في تراجع قيمة الأدب الروسي وكذا تأثيره الاجتماعي، إذ ضرب العقم الكُتَّاب الروس الذين غرقوا في خدمة خط الحزب والنظام الشيوعيين. أما أولائك الذين أطلقوا العنان لخيالهم وروحهم الخلاقة...، فقد تعرضوا للاضطهاد.
إن العفوية شرط ضروري للإبداع، حيث لابد أن ينبع هذا الأخير من الروح الخلاقة الحرة... أما الأدب التابع للمؤسسات والمبرمج لخدمة أهدافها السياسية والاجتماعية الضيقة، فإنه لا يستحق أن يسمى أدبا. لكن ينبغي للإبداع أن يواجه مصاعب الحياة وويلاتها... بدون يأس من قدرة الطبيعة الإنسانية على مواجهة تحدياتها. وهكذا، فعلى المبدعين والمفكرين أن يعملوا على كسب معارك الحياة، ولو أنه ليست لهم الضمانة لربحها.
يرى بعض الناس أنه على المثقفين والكتاب والفنانين ألا يهتموا بالمسائل السياسية والاجتماعية الراهنة.
ولا يخلو هذا الكلام من جزء من الحقيقة، لأن التورط الكامل في المشكلات السياسية قد يعرض المبدع لخطر ضياع استقلاله ونقائه... لكن ما دمنا نعيش في المجتمع، فإننا نرتبط جميعا، بشكل أو بآخر، بالسياسة.
فلا يمكن أن نعيش في عزلة تامة كما يعيش النساك في معابدهم. ولا يمكن للكتاب، الذين يقيمون في الأبراج العاجية، القيام بعمل سليم وحيوي. أضف إلى ذلك أن أهم سمة في البشر هي إنسانيتهم المشتركة.
والإنسان حيوان اجتماعي منهمك في مشكلات الحياة الإنسانية سواء أكانت كونية ودائمة، أم كانت خاصة براهنه ومجتمعه.
وهكذا، فإنه لا يمكن للمبدع أن يكون مبدعا إذا لم يكن إنسانا. والمفكر أو الأديب... الذي يتجاهل هذه المشكلات مصاب بالعمى، ولا يمتلك الإلهام ولا يمكن أن يلهم الآخرين. لقد ركز بعض كبار الفلاسفة والأدباء... على القضايا الكونية الدائمة، ولم يهتموا بمشكلات زمانهم ومجتمعاتهم.
فلم يكن أفلاطون مرتبطا روحيا بوطنه أثينا، كما أن غوته لم يشارك سياسيا ولا عاطفيا في الصدام الذي حدث بين ألمانيا ونابليون، علما أنه كان مدركا أن هذا الصدام قد شكل نقطة تحول في تاريخ بلاده.
وفي مقابل ذلك، فقد كان لماركس ولينين ارتباط عاطفي بمشكلات عصرهما ومجتمعاتهما، حيث حول الأول فلسفته إلى برنامج سياسي، وقام الثاني بمحاولة تنفيذها في بلده روسيا...
تفرض هذه التجارب على المفكر أو الفنان ألا ينعزل كلية عن المسائل والقضايا الآنية لعصره ومجتمعه، وألا يغرق كلية فيها. وقد اتخذ هذا الموقف الوسط فلاسفة ومفكرون كبار نذكر منهم زينون Zénon مؤسس المدرسة الرواقية، وكذا أبيقور Epicure.
لقد عاش هذان الفيلسوفان في زمن افتقدت فيه الدولة-المدينة القدرة على توفير الفضاء الاجتماعي والأخلاقي القادر على ضمان رضى الإغريق وطمأنيتهم، حيث كان هؤلاء يعانون من الارتباك الروحي. فقام أبيقور وزينون بإبداع مواقف جديدة جعلت استمرار الحياة الإغريقية ممكنا، بالرغم من انهيار المؤسسة التقليدية التي جسدتها الدولة-المدينة.
لقد كان أفلاطون أرستقراطيا، كما كان أستاذه سقراط من العامة. وقد كان الثاني مهتما أساسا بالقضايا الكونية الدائمة، لكنه شارك، على عكس أفلاطون، في الحياة السياسية لأثينا. وبالرغم من أن سقراط لم يكن متوغلا كلية في السياسة، فإنه كان يتدخل فيها بصرامته ونزاهته الفكرية المعهودتين فيه، وذلك كلما ارتأى أن واجبه المدني يفرض عليه ذلك.
وهكذا فقد صوت، ذات مرة، أمام الملأ في المجلس النيابي الأثيني ضد اقتراح شعبي جدا، لأنه نظر إليه بكونه خطأ أخلاقيا. كما أنه فضل أن يٌحكَم عليه بالإعدام بدلا من أن يتنكر لقناعته ويعلن أن أفكاره مسيئة للأخلاق. وفضلا عن ذلك، فإنه رفض أن يهرب إلى مكان خارج بلاده وينجو من الموت.
وأظن أن ممارسة سقراط الذي لم يحترف السياسة ولم يتهرب منها هو تجسيد للموقف الوسط الذي يناسب المفكر والأديب والفنان ويضمن له حريته...