الجمعة 19 إبريل 2024
سياسة

بعد أزمة «حجّ» علي بوطوالة: متى يتخلّص اليسار من «عقدة» الدين؟!

بعد أزمة «حجّ» علي بوطوالة: متى يتخلّص اليسار من «عقدة» الدين؟! علي بوطوالة في صورة تركيبية مع الكعبة المكرمة

الهجوم الشرس الذي تعرض له الدكتور علي بوطوالة، الكاتب الوطني لحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، من قبل بعض رفاقه في الحزب وفي اليسار، واتهامات «الخيانة» التي وجهت له بعد عودته من الحج، تعيد إلى الواجهة صراعا «عتيقا» و"باليا" بين «اليسار» و"الدين".

حزب الطليعة من الأحزاب المشاركة في فيدرالية اليسار الديمقراطي إلى جانب الحزب الاشتراكي الموحد وحزب المؤتمر الوطني الاتحادي. وكان اختيار التحالف بين مكونات هذه الأحزاب الثلاثة اختيارا استراتيجيا فرضته حساسية هذه المرحلة التي تشهد عزوفا سياسيا عن المشاركة في الانتخابات، وهو العزوف الذي مكن حزب العدالة والتنمية الأصولي من الظفر بالأغلبية في الانتخابات، مستغلا الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها حكومة التناوب، فضلا عن «الدوباج» الذي ضخته الإدارة الأمريكية في عهد أوباما في الحركات الأصولية بالعالم العربي، وضمنه المغرب. الذوبان في تكتل حزبي كان هو الدرع الواقي لحماية العائلة اليسارية من «التحلل» و"الانصهار" بفعل تساقط النيازك والجمرات «الخبيثة» التي يفرزها «بركان» الأصوليين الذي كان يحرق كل ما يحيط به!!

هي لحظة فارقة استعادت فيها أحزاب «راديكالية» عمقها المغربي، وقررت الخروج من شرنقتها، كسّرت كل جدران الكلس التي كانت تبني بها أسوارا منيعة بينها وبين عوالم المجتمع المغربي، في رسالة بليغة معناها أن السياسة لا تحب الكرسي الفارغ. من هنا ضرورة تقديم تنازلات والتخلص من قناعات ورواسب إيديولوجية وأفكار طوباوية كانت بمثابة «كماشة» تجرها إلى البئر المظلم لتأويل أورثوذكسي للماركسية كان ينظر إلى المجتمع من خلف نظارة سوداء. لذا كانت المشاركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وفوز بلافريج والدكتور الشناوي بمقعدين برلمانيين باسم فيدرالية اليسار «انتصارا» رمزيا ولو كان «صغيرا»، برغم الحروب التي خاضها المركب المصالحي والأصوليين ضد مرشحي اليسار، وفي الوقت نفسه كان ذاك الانتصار الرمزي رسالة من تحت الماء للتصالح مع المغاربة والخروج من «الأبراج العاجية» وبداية حيوات جديدة لثلاثة أحزاب يسارية غيرت جلدها ونمط تفكيرها ورؤيتها للحياة السياسية.

لكن قطار حزب الطليعة الذي كان يقوده الدكتور علي بوطوالة ويعبر المحطة تلو المحطة، مخترقا حقول الألغام والأنفاق المظلمة والجبال الوعرة، تعطل عند محطة «حج» سائق القطار، علي بوطوالة. «حدث» بسيط لا يحتمل كل هذا التضخيم والتهويل و"التخوين"، أراد له رفاقه في الحزب أن يجعلوا منه «حادثا» بوقع الصدمة. وسرعان ما التفت الألسن حول عنق بوطوالة لشنقه، لأنه «ارتد» عن دين «كارل ماركس» وزار "البيت الحرام"!!

فعل بوزن «الخطيئة» اقترفه علي بوطوالة الذي مارس حقا شخصيا من الحقوق التي طالما دافع عنها اليسار بالدماء. وهي مناسبة كي تخرج تلك «الوحوش» من صدور «الرفاق» لنهش لحم علي بوطوالة «الرفيق» الذي أخطأ بوصلة «الطريق» في نظرهم!! وعادت تلك العلاقة المتشنجة والراديكالية بين العائلة اليسارية والدين للظهور إلى الواجهة، وهو «نزال» إيديولوجي وفكري «محسوم»، وإعادة إحيائه هي محاولة لنسف حزب كان يتغذى بالأصولية الماركسية، وهي الوجه الآخر لـ "عملة" الأصولية الدينية التي ينهجها أتباع بنكيران والجماعات الإسلامية المتطرفة. والتطرف في الأفكار لا يلد إلا «مسوخا» ومخلوقات مشوهة.

لم يستوعب كل من هاجم «الحاج» بوطوالة أن «نخلة» الدين ضاربة بجذورها في عمق التربة المغربية، ولا يمكن اقتلاع هذه النخلة إطلاقا. ولعل اليسار الراديكالي المغربي يعتبر نفسه امتدادا لليسار الأوربي الذي حسم في قضية الفصل بين الدين والدولة، لأنه وجد التربة مناسبة لامتصاص «التغوّل» الديني والتحكم الإيكليروسي، وخاض حروبا في القرون الوسطى للقضاء على هيمنة رجال الدين على العقل السياسي الأوربي. في المغرب الوضع مختلف، ومشاتل الدين يغرسها المغاربة بعرقهم ودمائهم، لذلك فأي «تحرش» بالدين هو قرع لطبول الحرب. ورقة الدين لم تكن أبدا مطروحة من طرف الحركة الوطنية لاستعمالها في خصومة مع موروث المغاربة، بل على العكس كانت الحركة الوطنية هي الحاضن للفكر الديني المتنور والتقدمي: ألم تنجب الحركة اليسارية بالمغرب (وهي البنت الشرعي للحركة الوطنية المقاومة) فقهاء وأقطاب علمية شامخة من حجم شعيب الدكالي والمتوكل الساحلي ولحبيب الفرقاني والحاج الصمدي؟ ألم يكن احتضان العائلة اليسارية للفكر الديني المتنور هو السبب الذي جعل الدولة تنتبه إلى أنها بدون علماء بحوضها، فسارعت لخلق «دار الحديث الحسنية» لتطعيم الدولة بفقهاء «ديالها» وليس فقهاء يتماهون مع اليسار، إلى أن اختلت الموازين ورجحت الكفة لصالح الدولة بعد أن تم غرس أوتاد سنوات الرصاص، وشنت حملة ضد التقدميين واليساريين عامة لإضعافهم باستعمال كل الوسائل، بما فيها خلق الدولة للحركة الأصولية وتسهيل تغلغلها بالجامعة والمجتمع وترويج الإشاعات عن اليساريين بكونهم «ملاحدة» و"كفرة بالله".

ورقة الدين ورقة مسمومة لمن لا يحسن استغلالها واستثمارها، وهذا ما أدركه إخوان عبد الإله بنكيران -بعد استقوائهم بإدارة أوباما وبغير المأسوف عليه جون ماكاين في أوج الربيع الأصولي- علما أن أتباع بنكيران والعثماني ومن يدور في فلكهم من أصوليون لا  يجيدون سوى فن اللعب بورقة الدين إلى درجة أوصلتهم إلى «مربع» الحكم وتوزيع الريع بينهم واحتكار المناصب السامية واحتلال دواوين الوزارات. لكن حزب الطليعة بهذا الهجوم الكاسح على بوطوالة فشل في استثمار ورقة «حج» بوطوالة، لتغيير نظرة المغاربة الذين يتمثل جزء منهم اليسار كعدو للدين، وهاهم الآن يدكون الجمل بما حمل، وإعدامهم بوطوالة هو إعدام جماعي للبذرة المتنورة الأولى للفكر الديني التي غرسها علماء وفقهاء الحركة التقدمية بالمغرب !

(تفاصيل أوفى تقرؤونها في العدد الحالي من أسبوعية "الوطن الآن")