الأربعاء 31 ديسمبر 2025
كتاب الرأي

بنسعيد الركيبي: "خدمة الزربة" يفضحها الله

بنسعيد الركيبي: "خدمة الزربة" يفضحها الله بنسعيد الركيبي
حين نتأمل في عدد من المشاريع العمومية التي تنجز تحت ضغط الزمن أو في سياق الإستعدادات لحدث رسمي أو مناسبة كبرى، نكتشف ظاهرة باتت تكاد تصبح “قاعدة غير معلنة”. فالأشغال التي تبنى بعقلية الإستعجال غالبا ما تفتقر إلى الروح التي تصنع الجودة والديمومة. وكأن الفكرة الأساسية لم تعد هي خدمة المواطن لسنوات طويلة، وإنما إتمام الأشغال في أقرب وقت ممكن، ولو على حساب ما يجب أن يكون.
 
“خدمة الزربة” هي عنوان لعقلية تتعامل مع الزمن باعتباره خصما لا بد من هزيمته، وليس شريكا في بناء الإتقان. لذلك نرى طرقا يتم تعبيدها بسرعة وأرصفة يتم إنجاوها في أيام قليلة، ومرافق يتم تدشينها على عجل…كل شيء يتحرك بسرعة، لكن دون أن يمنح الزمن الطبيعي للتفكير الهادئ، وللمراقبة التقنية وللتجريب قبل التسليم. وما إن تمر الشهور الأولى حتى تبدأ الأعطاب الصغيرة في الظهور: تشقق هنا وهبوط هناك... ترميم متكرر في نفس المكان كأنه جزء من البرنامج الدائم.
 
وجوهر الإشكال هنا لا يرتبط بالمظهر النهائي للأشغال، بقدر ما يرتبط بالمعنى القيمي الذي يفترض أن يحمله كل مشروع عمومي. فحين ينجز أي مشروع عام، يفترض أن يعبر عن احترام المال المشترك وأن يمنح للمواطن الإحساس بأن موارد الدولة تم توجيهها وصرفها بطريقة مسؤولة لخدمته وتحسين ظروف عيشه. وعندما يغيب هذا الشعور، تبدأ الثقة في السياسات العمومية في التراجع. وتتعرض فكرة الصالح العام نفسها للاهتزاز داخل الوعي الجماعي. فمن الطبيعي أن توجد آجال محددة وأن تكون هناك ضغوط لتدارك التأخير أو مواكبة مواعيد كبرى. لكن غير الطبيعي أن تتحول السرعة إلى معيار النجاح الأول ويتم تغييب معايير مثل التدقيق والحكامة، وضمان الجودة. 
 
فالمشاريع التي تبنى بعقلية الاستدامة تعيش وتترسخ وتطمئن الناس. أما تلك التي بنيت على عجل، فإن الزمن يكشفها مهما حاولنا تغطية عيوبها. وهنا تتجلى الحكمة الشعبية في قولها: “خدمة الزربة يفضحها الله”.
 
إن الإصلاح الحقيقي يبدأ من الإعتراف بأن المال العام ليس مساحة للتجريب المتكرر، وأن المدينة ليست منصة لطلاء الواجهات فقط، وإنما كيان اجتماعي يعيش فيه الناس كل يوم، ويحتاجون إلى طرق معبدة وغير محفرة ومرافق صامدة وبنيات مدروسة لا تتهاوى مع أول اختبار طبيعي.
 
ولسنا بحاجة إلى معجزات، بل إلى ثقافة راسخة تضع الجودة قبل الصورة والاستدامة قبل المناسبة، والمواطن قبل الحدث. أما “خدمة الزربة”، فمصيرها معروف: قد تعبر لحظة التدشين لكنها تسقط عند أول اختبارات الزمن… والزمن لا يجامل أحدا.