سجل المغرب نقلات تاريخية في مساره السياسي على مدى ما يناهز القرن من الزمن، فمن الحماية إلى الاستقلال إلى تعزيز الدولة/الأمة وترسيخ مؤسساتها الدستورية إلى الاقبال المنفتح على الإصلاحات ذات الطبيعة الليبرالية، في ظل الاستمرارية والتمسك بثوابت الدولة/الأمة المغربية المتجسدة في الترابط التاريخي بين الملكية والشعب.
هي إذن استراتيجية تدريجية هادئة متكيفة منسجمة مع ذاتها، متطابقة مع القواعد السياسية والقانونية والمؤسساتية لتطور البلاد والمجتمع، تحت شعار إجماع وطني أساسي تحدده قواعد أساسية: الإسلام، الوطنية العاكسة للوحدة الترابية، الملكية الدستورية، والليبرالية الاجتماعية، التي تجسد الانفتاح على الإصلاحات ومسارات الانتقال الديمقراطي والرغبة في التغيير وتخليق وتنظيم الحياة السياسية، انتقل معها المغرب من الدولة المركزية إلى اللامركزية فالجهوية الموسعة، وانتهت بالمغرب إلى ما يشكل اليوم حاضره السياسي والاجتماعي والثقافي. وها هو أمام منعطف جديد حيث يقبل على تجربة فريدة في تنظيمه الإداري، تتمثل في الحكم الذاتي.
منذ 2007 تتردد سياسيا وإعلاميا عبارة " الحكم الذاتي" دون أن يدقق أحد في تفاصيلها ومخرجاتها، بل ظلت كعنوان أمام المغاربة. كان صمتا تكتيكيا مدروسا لم تتسرع المملكة في الكشف عن كل حيثياته، بل ركزت الدبلوماسية المغربية على الترويج للمبادرة كمبادئ وخطوط عريضة على الصعيد الدولي، سعيا لكسب الدعم والمساندة أولا. وضع أثناءها المغاربة ثقتهم في قيادة الملك محمد السادس وتدبيره لهذا الملف، الذي أداره على مدى 18 عاما بصبر وحكمة وبصيرة وجدارة، وهو ما تحقق بعد تزكية المنتظم الدولي للمبادرة، وإقصاء المشروع الانفصالي.
لن يكون الطريق أمام المغرب سالكا وهو مُقبلٌ على معركة التفاوض دفاعا عن مشروعه للحكم الذاتي، فهناك تحديات داخلية وخارجية (وطنية، دولية، جزائرية بوليسارية، وموريتانية)؛ تتطلب جهادا أكبر وتضحيات جسام وحذر وحيطة بَالِغَيْن لكسب هذا الرهان. فكم هي مدة هذا التفاوض وما كُلْفته أثناء الحوار مع الخصوم؟
ــــــــ التحديات الخمس الكبرى:
1 ــــــــ دوليا:
المغرب وفق القرار الدولي 2797/2025، مَدْعُو بأن يعرض على الأمم المتحدة، مشروعا مُحَيَّنا حول خطة الحكم الذاتي لأقاليمه الجنوبية، لما بعد 2025، بصفته الأرضية الوحيدة على طاولة التفاوض بين أطراف النزاع، والأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه الشخصي وتثبيتا للشرعية الدولية باتا مطالبين بِحَثِّ أطراف النزاع على التفاوض دون شروط مسبقة، دون أية صيغ أخرى، تفسح المجال لنقاشات جانبية أو تقود إلى متاهات خارج السياق الدولي المُجْمَع عليه. ومسؤولية الأمانة العامة للأمم المتحدة بالغة الأهمية، تتجسد في وضع حد للتسويف والتهرب والمماطلة والتمييع السياسي، كمحاولة من الجزائر للدفع بالمفاوضات خارج سياقها.
المغرب يدخل هذه المفاوضات بجبهة داخلية موحدة وإجماع وطني على الوحدة الترابية، وبالمنجزات والاوراش التي تحققت بالأقاليم الصحراوية واندماج كامل للساكنة وانطلاقة أوراش كبرى واعدة واستقطاب دولي، يضاف إليها أن الرباط كسبت معركة الشرعية الدولية، لذلك يدخل المغرب طاولة التفاوض بأوراق رابحة قوية، ووثيقة حكم ذاتي سيادي متقدمة ضامنة لوحدة الشعب والتراب.
من المفترض مع استكمال مسار التفاوض، أن نطوي صفحة أي تمثيلية أممية أقصد "المينورسو" أو ما شابَهَها. فملف الصحراء يجب أن يطوى بشكل نهائي دون أية تبعات أو ملاحق كما سيحاول الخصوم ربما حَبْكه كألغام ودسائس من شأنها تعقيد الموقف محليا، أي ما مفاده أن جل مراحل تدابير تنزيل وأَجْرَأَة وترتيب البيت الداخلي الصحراوي المغربي يجب أن تتم في إطار السيادة المغربية، خارج أي سياق دولي، فلا عودة إلى الوراء.
2 ــــــــ وطنيا:
إن اعتماد نظام الحكم الذاتي الذي يشكل منعطفا حاسما في الحياة السياسية المغربية، يعد الثالث من نوعه في العالم العربي بعد تجربة العراق المريرة المتواصلة، وتجربة السودان الفاشلة. اليوم يدخل المغرب غمار هذه التجربة في انتظار ما يقترحه من فرضية عمل ومفاهيم تصورية من حيث التوجهات والمبادئ وميكانيزمات الاشتغال.
تنتقل معها المعركة من الخارج إلى الداخل، وعلى المغرب كسب رهانها، ليس فقط من أجل إقناع الآخرين بل من أجل المغاربة قاطبة تعزيزا للثقة ويقينا وطمأنة على مصير المغرب الموحد. فمشروع الحكم الذاتي لم يعد مخططا دبلوماسيا للترويج الدولي، بل تحول إلى نهج سياسي جديد في تدبير الشأن الجهوي المتطور والمتقدم. لذلك فإن المغرب على موعد مع الانتقال من اللامركزية المتقدمة الى اللامركزية من طراز جديد، في صيغة حديثة تتمثل في اعتماد نظام سلطة محلية حقيقية لسكان الأقاليم الصحراوية، وقد ذهب بعيدا في ذلك، من حيث طبيعة الاختصاصات والصلاحيات، وهو ما يدفع باتجاه ضرورة تطوير الممارسة الديمقراطية بعموم البلاد، المعتمدة منذ استقلالها على النظام المركزي الذي شهد بدوره تحولات تدريجية في عهد الملك محمد السادس، بتدشين ورش الجهوية المتقدمة الذي لازال تجربة فتية.
ومن شأن توسيع نطاق صلاحيات تدبير الشأن المحلي لجهة الصحراء بالشكل المنتظر في مشروع الحكم الذاتي، أن يقلص من ارتباطها الوثيق بالمركز الرباط، وذلك تماشيا مع المتغيرات التي ستشهدها بعض القوانين ومن بينها دستور 2011. غير أن انتقال الأقاليم الجنوبية من نظام الجهوية المتقدمة إلى نظام الحكم الذاتي، يتطلب الكثير من الهدوء والانتقال المرحلي المتدرج لوضع أسس تحَوُّل سَلِس ومَرِن، لا يدفع بالبلاد إلى السرعة القصوى الضاغطة، التي من شأنها أن تربك عملية التحول في تدبير الشأن المحلي السيادي. وهذا يقتضي ضبط العلاقة بشكل وثيق بين المركز والجهة في إطار الثقة الراسخة والتعاون الوثيق لخدمة المصالح العليا للوطن، في ظل الضوابط القائمة تاريخيا بين الملك والشعب المتجسدة في البيعة دون اشتراطات، والتي يتوجب حضورها كمؤسسة ضامنة، في إطار السيادة والروابط الاجتماعية التي جمعت قبائل الصحراء جنوبا بباقي القبائل وسط وشمال البلاد.
لذا فمن المنتظر أن تراعي صيغة الحكم الذاتي هذه الخصوصيات وثوابت الأمة المغربية، لإخراجها بمقاس وطني بمعنى "تَفْصيلَة مغربية".
المغرب على أعتاب إجراء الانتخابات التشريعية والمحلية/ 2026، التي اكتسب بحكم تراكم التجارب الانتخابية خبرة في تدبير رهانها السياسي، واليوم على بلادنا تعزيز مرتكزات نجاح هذه المرحلة، نزاهة وشفافية وأجواء ديمقراطية مثالية تمكنه من تجديد النخب التمثيلية المؤهلة للانتقال من التجربة إلى الممارسة الديمقراطية النموذجية. ويقع على عاتق الأحزاب السياسية مسؤولية جسيمة في تدبير اختياراتها لإنجاح هذا الورش السياسي.
3 ــــــــ الجزائر وسياسة تدوير القديم وتعميق الخلافات:
ما من شك أن الجزائر المدعوة تحت طائلة الالزام للمشاركة في مائدة التفاوض لحل النزاع رغم حالة الممانعة والتنطع، ليس لديها ما تقدمه من حلول او اقتراحات، سوى البحث عن الذرائع ووضع العراقيل وممارسة أنواع شتى من الخبث السياسي، في محاولة للمسك بزمام قرار واختيارات قادة البوليساريو، واستخدامهم كورقة ضغط "جُوكير" تتوافق وأجندتها السياسية بالدرجة الأولى. لكن هامش مناوراتها يتقلص، فالدور الأمريكي كوسيط حاضر وضاغط يضعهم بين المطرقة والسندان.
لكن دعونا نتساءل ما السر وراء التشبث الجزائري الأعمى الهستيري حد الغلو بقضية الصحراء؟ إنه يا سادة الخوف من الانهيار الكامل المهدد به النظام الجزائري داخليا وخارجيا، الذي أصبح يقف على خيط رفيع يتمثل في قضية الصحراء، فأي حل لهذا المعضلة يرى فيه قادة الجزائر أنه مهدد لكيانهم، دافع بهم إلى الهاوية. لذلك نجدهم يركضون شرقا وغربا استجداء لمواقف داعمة للدول ولو على الورق، لإقناع الشعب الجزائري بصمود واهم للدولة في القضية التي تحولت إلى ورطة مدمرة. الجزائر مهددة من كل الجهات من جنوبها بالساحل الإفريقي بحدود مفتوحة ترتع بها الميلشيات الإرهابية المسلحة القاعدة، داعش، بوليساريو (تجارة في السلاح والبشر والمحظورات...)، بوليساريو مهدد أمريكيا بتصنيفه منظمة إرهابية وتعبات ذلك العقابية على الطرف المحتضن، أوضاع سياسية اقتصادية اجتماعية خانقة بالداخل، عملة محلية/الدينار ينهار، جيش غارق بالفساد، صراعات بين قادته، نزاعات مفتوحة مع دول الساحل مالي النيجر بوركينا فاصو وليبيا، نزاع غربا مع المغرب، ونهج سياسة إعلامية فاشلة أضرت بشكل كبير بصورة الجزائر. فحلحلة هذه القضية بالنسبة للنظام الجزائري ستكون بلا شك في غاية الصعوبة والتعقيد والاكراهات، بحكم التركة الثقيلة من العلاقات والسياسات داخليا وخارجيا، القائمة فقط على أطروحة "الصحراء الغربية تقرير المصير الاستفتاء"، التي استهلكت ونفذ مخزونها، وعرضت الجزائر لمخاطر في غاية التعقيد حَدَّ الانفجار.
كل التصريحات والخرجات السياسية والإعلامية التي صدرت عن قادة الجزائر منذ صدور قرار مجلس الامن الدولي 2797، وما سعوا إليه في منتديات قارية ودولية وتحركات دبلوماسية ثنائية، تفيد أنهم خارج السياق الدولي ولم يستوعبوا بعد ماذا يجري من حولهم في المنطقة والعالم. وأن كل تحركاتهم تأتي للتغطية على هزيمة مدوية.
على المغرب تَوَقُّع ما يفكر فيه قادة الجزائر، للخروج من ورطة نزاع صفري 0 ضده. فلابد أن البحث جاري لديهم حول كيفية تحقيق صفقة تسوية مع المغرب، تسمح لهم بحفظ ماء الوجه أمام الشعب الجزائري بعد خسارة قضية "الصحراء الغربية".
لقد غدر قادة الجزائر بالمغرب في مناسبات عديدة، في عهد المغفور لهما الملكين محمد الخامس والحسن الثاني في مسألة تسوية مشكل الحدود المتنازع عليها وعرقلة استعادة المغرب لوحدته الترابية. وعلى المغرب اليوم أن يكون في غاية الحذر واليقظة بعدم تكرار سياسة حسن النوايا تجاه قادة الجزائر، ف " المومن لا يُلْدغ من الجحر مرتين". ما نحتاج إليه مع الجزائر أكثر من الحوار، أن تتمكن من تغيير العقلية المثقلة بالعداء ضد المغرب، لكي تتحرر ثانية بعد تحررها الأول سنة 1962.
4 ــــــــ البوليساريو الجوكر الجزائري:
لا شك أن طريق التفاوض سيكون شاقا ومعقدا، فقرار الجبهة السياسي ومصيرها رهين بقادة الجزائر مما يُعَقِّد سير المفاوضات. تصريحات قياديها منذ صدور القرار الدولي 2797، تتماهى مع توجهات قادة الجزائر تهربا وتملصا، بين الرفض والقبول المشروط المخالف لجوهر هذا القرار، مع استمرار استخدام لغة الاستفزاز والتحرش والتهديد والدعاية العسكرية المجانية.
في هذا السياق قال مستشار الأمين العام للجبهة " إن البوليساريو لا يعترض على الحكم الذاتي إذا كان في إطار ممارسة الشعب الصحراوي حقه في تقرير المصير، فهذا هو الجوهر والأساس"، "مؤكدا مشاركتهم في المفاوضات إذا كانت بتطبيق قرار مجلس الأمن الدولي الذي يخلق إطار هذه المفاوضات بعرض مقترح المغرب ومقترح البوليساريو على قدم المساواة...".
لكن على المغرب التفكير أيضا، في كيفية تدبير هذه العودة والاندماج ضمن المجتمع المغربي الصحراوي، فمعظم هؤلاء من الميليشيات المسلحة التي اعتادت استخدام السلاح، فمنهم مُسَيَّسين متشبعين بالأفكار الثورية والإيديولوجيات اليسارية التي تربوا عليها في أحضان النظام الجزائري، وقد تحذوهم الرغبة في إعادة زرع بذور الفتنة والشقاق داخل المجتمع الصحراوي بدعم جزائري، فالعداء للمغرب لدى الجار لا حدود، وعلينا توقع مؤامراتهم ودسائسهم.
ما يجب الانتباه إليه، قد تحاول البوليساريو القبول المبدئي بالمبادرة المغربية لكن بصيغة مؤقتة مشروطة باستفتاء استشارة للساكنة بين الحكم المحلي وتقرير مصير بالانفصال، من يستمع ويتابع خطابات وتصريحات قيادتهم يلمس هذه النبرة والحس الانفصالي المريع، الذي قد يشتغلون عليه من الداخل، بدعم جزائري متواصل.
5 ــــــــ موريتانيا الدور البناء:
يكتسي الحضور الموريتاني على طاولة التفاوض، أهمية بالغة، بحكم الاطلاع الواسع لنواكشوط على حيثيات الملف، كما أن العديد من ساكنة مخيمات تندوف من أصول موريتانية منهم قادة بالجبهة. وتجدر الإشارة إلى أن موريتانيا حسمت موقفها سنة 1979 بعد الانسحاب كلية من النزاع، لتظل المواجهة ثلاثية بين المغرب والجزائر والبوليساريو. ورغم القرب السياسي والجغرافي والقبلي من ملف الصحراء، إلا أن قادتها اختاروا استراتيجية النأي بالنفس واعتماد سياسة ثابتة تجسد الحكمة والتروي، تقوم على مبدأ الحياد تجاه أطراف النزاع الرئيسية المغرب والجزائر.
وقد عبرت الرئاسة الموريتانية في العديد من المناسبات عن الرغبة في التعاون مع أية مبادرة لحل النزاع، كما ظلت منسجمة مع دينامية المسار الاممي. لذلك ينتظر من الحضور الموريتاني على طاولة التفاوض الرباعية أن يكون مبنيا على حسن النوايا والرغبة في التوجه الجدي لوضع حد لهذا النزاع، مع إبداء الرغبة في التعاون وتقديم المشورة والدعم.
وفي اعتقادي المتواضع، لا يهم قادة موريتانيا من قضية الصحراء سوى أمن حدود البلاد واستقرار أوضاعها والحفاظ على كيانها، والتأكيد على حرصها التوصل إلى تسوية كفيلة بتجنب تفجير الأوضاع بالمنطقة، وتعاون إقليمي لحل مشاكل الساحل والصحراء المهددة فعليا للأمن والاستقرار، كما تراهن على التعاون المشترك في إطار اتحاد مغرب عربي قوي. وتظل هناك قضايا سياسية بين المغرب وموريتانيا مرتبطة بما بعد الحل النهائي، سيتم تسويتها في إطار ثنائي بالحوار والتفاهم والتعاون.
ما المنتظر من المفاوضات:
كما على المغرب التفاؤل خيرا بنتائج المفاوضات، عليه أيضا ألا يذهب بعيدا في تفاؤله، فإما أن يَحُلَّ موعد أكتوبر 2026، وقد اتفقت أطراف النزاع على التوافق فيما بينها باعتماد المقترح المغربي الثابت المدعوم دوليا، ينتهي معه أي دور للأمم المتحدة، أو أن تستمر الخلافات وتتعثر المفاوضات، بما دفع الأمين العام للأمم المتحدة إلى اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي ليستعرض صعوبات التوصل إلى حل، قد تدفع هذا الأخير إلى استصدار قرار جديد أكثر إلزامية يضغط فيه على الطرف المعرقل للتوصل إلى الحل. دون ذلك قد تتعرض المنطقة إلى مزيد من التوتر بالشكل الذي يريح قادة عسكر الجزائر.