السبت 20 إبريل 2024
كتاب الرأي

منعم وحتي: هنيبعل..  دروس السياسة وتكتيكات الحروب

منعم وحتي: هنيبعل..  دروس السياسة وتكتيكات الحروب منعم وحتي

إن ممارسة الفعل السياسي، ليس بالضرورة استقراءها من الكتابات السياسية القُحَّةِ، بل إن بعض المعادلات الأساسية لتاريخ الحروب وقادتها يمكن أن تكون دروسا موضوعاتية تؤطر بعضاً من الممارسة السياسية، والحديث هنا ليس عن الحروب الحديثة، بل عن استراتيجيات وتكتيكات الحروب التاريخية القديمة، والنموذج الأجدر بالتمحيص في هذا السياق هو القائد العسكري القرطاجي هنيبعل، والذي لازالت لحدود اللحظة خططه العسكرية ودهاءه الحربي تُُدَرَّسُ الآن في أرقى جامعات العالم.

كان هنيبعل (248 ق.م - 182 ق.م)، ابن عائلة من القادة العسكريين القرطاجيين، خاضت الحروب البونيقية، ما وفر له بيئة ملائمة لتجميع تراكم تجارب رائدة بين الانتصارات والهزائم في حروب متعددة على رأس قرطاجة، حتى وصوله لقيادة جيشها، عن جدارة وكفاءة مشهود بها، إلا أن أهم الدروس التي أعطته ميزة حكيم الخطط العسكرية، كانت أساساً 16 سنة من الحروب المريرة والمتشعبة وتكتيكاتها مع الجيوش الرومانية، خلد التاريخ فيها قائدا كبيرا.

إن استشعار هنيبعل للخطر المحدق للامبراطورية الرومانية بقرب الهجوم على قرطاجة (تونس)، طمعا في مركز تجاري استراتيجي على الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، في محاولة لإخضاعها لحُكم روما، جعله يسارع لنقل المعركة لإيطاليا، إعمالا لنظرية "نقل المعركة لأرض الخصم" لتحميله تكاليف خسائر مكان المعركة، وضغوطات الدفاع عن مواقعه الحيوية من الدمار، وهي نظرية تدرس لحدود اللحظة في الحروب والسياسة والتنافسية الاقتصادية.. حيث نقل هنيبعل، في خطوة غير مسبوقة، جيشه وعتاده وفيلته من قرطاجة مرورا بإيبيريا "إسبانيا" في رحلة شاقة مرورا بجبال الألب ووعورة مرتفاعتها وقساوة ثلوجها لمباغثة الرومان عبر الشمال، و "عنصر المفاجأة والخطط غير المتوقعة" من نظريات التكتيك العسكري التي ميزت هنيبعل. وقد كان تحديد الهدف دقيقا جداً، ألا وهو هزم الجيش الروماني في قلب روما، لذا كان الجيش القرطاجي يطلق سراح كل أسرى الشعوب التي يمر منها لخلق جسور توطيد العلاقات مع قرطاجة، لدرجة أن هنيبعل تزوج من إيبيرية لتمتين العلاقة مع شعوب عبور جيشه، حيث قال : "ما جئت لأشن حربا على الشعوب المستعمرة، ولا حتى الإيطاليين، بل لإنهاء حُكْمِ الرومان الظالم".

استطاع هنيبعل إعطاء عدة دروس في التكتيك العسكري، حيث شكلت معركة تيسينيوس وحروب ضفاف نهر تريبيا إحدى المعالم التاريخية للحروب (218 ق. م)، حيث استطاعت فيالق صغيرة من الجيش القرطاجي في تدبير مُحْكَمٍ بين المشاة والخيالة الهجوم على الجيش الروماني واستدراجه لسهل مُوحِلٍ، مليء بالطمي، جعل الرومان يعلقون في تربته السائلة، ليسهل انقضاض القرطاجيين القليلي العدد على الجيش الجرار للرومان وإلحاق هزيمة نكراء به، وهو متخبط وسط الوَحَلِ، إنه تطبيق بارع لنظرية "دَعِ الأرض تقاتل عنك"، وهو النصر القرطاجي الذي جعل الغاليين يلتحقون بجيش قرطاجة، حينها قال هنيبعل : "إذا أحرزت نصراً انضم إليك الجميع حتى خصومك، أما إذا حاقت بك الهزيمة تخلى عنك حتى محبوك".

وقد كانت أشهر المعارك بين القرطاجيين والرومان، تلك التي دارت بموقع كاناي (216 ق. م)، حيث طبق هنيبعل "نظرية الكماشة"، حين سيطر على المرتفعات، واضطر الجيش الروماني الذي كان قوامه مئة ألف جندي للانكماش في منطقة ضيقة في الأسفل تصعب فيها الحركة برماحه الطويلة والثقيلة، وأقدم هنيبعل على إغلاق المنفذ الوحيد لهروب الرومان، واستعمل القرطاجيون حرابا قصيرة وخفيفة، ومع تموقع القرطاجيين في الأعالي، سَهُلَتْ عملية التطويق، وحُسِمَتِ المعركة في وقت وجيز، رغم أن تعداد الجيش القرطاجي كان في حدود أربعين ألفا فقط، إنها تكتيكات عسكرية تستعملها لحدود الآن الجيوش غير النظامية، بل حتى النظامية أحيانا، بالاستدراج والتقهقر المقصود والمكر والخديعة والتطويق ودقة وسرعة جمع المعلومات والتجهيز القبلي ومرونة تغيير الخطط والحركة واختيار الزمان والمكان.

لقد استطاع هنيبعل تشكيل مربع قيادة العمليات العسكرية بدرجة عالية من الكفاءة ومن مختلف الأجناس، إِذْ جمع بين قائد الفرسان البونيقي و الطبيب المصري والمنجم الهندي والحكيم الإسبرطي ومروض الفيلة النوميدي، والمؤرخ الإغريقي، حيث وُضِعَتُ أسس مبدعة للتكتيكات العسكرية، واستراتيجيات راقية لتدبير الحروب. وكما حققت هاته النظريات انتصارات باهرة، فإن أخطاء الحروب تسبب أيضا انتكاسات لاستمرار نجاحها، حيث أمر هنيبعل بعد سحقه لجيش الرومان بالتوقف اللحظي بعد معركة كاناي للاحتفال وإراحة الجنود، في خطإ فادح سيكلفه خسارة المعركة، رغم نصيحة الحكيم ماهربعل له بالاستمرار في الزحف اتجاه روما والانقضاض عليها قبل استجماع الرومان لقواهم، حيث كان القرطاجيون على مسافة خمسة أيام من روما، ويذكر التاريخ قولة العجوز ماهربعل المأثورة : "حنبعل.. لقد حَبَتْكَ الآلهة بنعم كثيرة، فأنت تعرف كيف تحرز النصر، ولكنك لا تعرف كيف تستخدمه وتستغله".

لازالت النظريات العسكرية لهنيبعل في تكتيكات واستراتيجية الحروب تُدَرَّسُ لحدود اللحظة، ودخلت معادلاتها للعلوم الاقتصادية والسياسية والعسكرية.. ، وظلت امبراطوريات ودول شمال البحر الأبيض المتوسط تتحين الفرصة تلو الأخرى لانهيار حضارات وامبراطوريات جنوب المتوسط والانقضاض عليها. فعلا فقد كانت المعارك اقتصادية حول المرافئ والموانئ الاستراتيجية، لكنها أيضا حروب لامتداد حضارات تاريخية تسعى لتوسيع مجالها الحيوي على حساب بعضها، لكن عبقرية الجنس البشري في إبداع ذكاء تدبير خطط الجيوش الصغيرة في مواجهة الجيوش الجرارة، ظل محفورا في كتب التاريخ تحت مسمى هنيبعل وهيبة قرطاجة، وهو القائل : "إما أجد طريقا أو أشقها".