قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ " إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون ويعجبون له ويقولون: هلاَّ وُضِعت هذه اللبنة؟، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين " رواه البخاري.
. كان محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام متميزا في طفولته، رصينا وعادلا وأمينا في شبابه، كان على نقيض فكر وممارسات قريش ، فاستطاع أن ينتزع اعتراف الجميع بأهليته ورجاحة منطقه وأفكاره وتصرفاته، فكان الحكيم الذي يحترمه ويقدره الجميع كما يهابه ويتخوف منه المستفيدون من الأوضاع ماليا وتجاريا وتحكما في الموارد وفضاءات مكة المقدسة المتلاقحة مع الابراهيمية واليهودية و النصرانية والوثنية والدهريين، وكان بالفعل بعد نزول الوحي عارفا بسلفه من الأنبياء متكاملا معهم منبها و مصححا لعمليات التحريف والحشو التي طالت سير وتاريخ الأنبياء ومضامين الرسالات السماوية عبر القرون بسبب نزعات رجال الدين المتطرفين لبسط تحكمهم بإضفاء القداسة على أقوالهم وأفعالهم أو بتسلط بعض الحكام وتواطئهم مع الكهنة.
ولهذا تقر الرسالة التي ينشرها سيدنا محمد باستمرارية الوفاء والتكامل الإيماني مع كل الانبياء والرسل السابقين له، يقول تعالى ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ ..البقرة.
وارتقى عمل الرسول الكريم إلى ترجمة أفكاره الايمانية الفطرية بعد الرؤى الصادقة و تأكده بالوحي من أنه أصبح مكلفا كنبي بتبليغ آخر الرسالات السماوية التي تجعل الاسلام الذي هو الاسم العام الجامع للرسالات السماوية كلها مستكملا لأركانه ومبادئه وتوجهاته العقدية والفكرية والفلسفية / الحكمة والمعاملاتية والاخلاقية، يقول تعالى ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ﴾ الأعراف.
إن حياة النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته وسنته هي المجسدة في أخلاقه الرفيعة وإنسانيته الممتلئة رحمة ومعاملاته المبنية على الصدق والعدل والتسامح والمساواة والرافضة للاستعباد والعبودية والاستغلال والظلم والقهر الاجتماعي والمادي والمعنوي والفكري، والمصححة للأفكار المتشنجة المشبعة بالحقد والكراهية والعنصرية، وقال تعالى ((واعلموا ان فيكم رسول الله ..)) الحجرات.
إذ يفترض تصور وجود النبي مع الناس في كل الأزمنة بكل متغيراتها ومستجداتها لأنه يخاطبهم كافة ويسعى لتبليغ الرسالة بالتي هي أحسن كما أمر، وأن لا يكره الناس على الإيمان لمخالفة ذلك للفطرة وللأمر الالهي ولعدم تجانس ذلك مع عدالة المحاسبة والمسؤولية ، يقول تعالى (( ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ))..سورة يونس..
فتبليغ الناس في القرن 21 ليس كتبليغهم في غيره من القرون السابقة فالخطاب يجدد نفسه بنفسه بتجدد آلياته وتغير المخاطبين لغة وثقافة وعادات ومستوى اقتصادي واجتماعي ومعرفي وعلمي ، بل قد تختلف مستويات استيعاب وفهم الخطاب داخل المجتمع الواحد في نفس الحقبة ، مثلا من بدو عرب إلى بدو أمازيغ ومن المثقفين إلى غير المتعلمين ومن مجتمع إلى آخر وحضارة إلى أخرى ، لهذا جاء في الحديث عن علي رضي الله عنه "حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله " البخاري .وروي عن علي " ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " مسلم .
ولقد أساء الكثير من المؤرخين والمحدثين عندما ركزوا على الجانب الحربي والعسكري وبالغوا في الحشو والحكي الذي يؤول ويسيئ إلى السياقات التاريخية والموضوعية لكل حادث على حدة وللمسلسل الرسالي برمته من البعثة إلى الوفاة ، فخدموا بذلك بشكل ممنهج علموا ذلك او جهلوه حكاما وسياسات معينة لتبرير الشطط في العنف والتحكم والاعتداء ، وأسسوا لظهور الأفكار والمجموعات التكفيرية والمتطرفة والدموية ، وتسببوا في المساس بالأفكار السامية للإسلام والتي نجملها في الإنسانية والحب والخير والعدل و الكرامة .
إن سيرة النبي ليست فقط حكايات وكتابات تؤرخ لنبي في حقبة معينة لإعادة استنساخها بتفاصيل أزمنتها وخصوصياتها وفضاءات أمكنتها ، بل هي متجلية في شمولية وعظمة الرسالة التي هي للناس كافة إلى أن تقوم الساعة وذلك لن يتحقق إلا بأعمال منهج النبوة في التواصل والتبليغ والتبشير والتيسير والتجديد بضرورة نشر الوعي والمعرفة والقضاء المبرم على كل أشكال الأمية والجهل بكل أنواعه وبناء الدولة العادلة التي تشرف الناس كافة وتكون في مستوى روح الرسالات السماوية .
إن المتأمل في عصرنا هذا لما يقع من أهوال وكوارث وجرائم هي ضد الاسلام وضد رسالات السماء وضد البشرية باسم الاسلام تجعلنا أمام أحداث خطيرة ومحاولات مع سبق الاصرار والترصد لسرقة الاسلام واحتكاره للتحكم في الناس بالترهيب والتهديد وبالتكفير والابتزاز واستباحة الاموال والاعراض وانتهاك الحريات والحرمات وبسط التجهيل والتخلف والجمود على الأفكار وفي المجتمعات ..
إن الوضع الراهن في العديد من المجتمعات والدول الاسلامية بعيد كل البعد عن المرتكزات التالية التي لا يكون الاسلام إسلاما الا بها ( الرحمة ) يقول تعالى .: " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " الانبياء، ( العلم ) " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خلق الانسان من علق * إقرأ وربك الاكرم * الذي علم بالقلم * علم الانسان مالم يعلم " ( المعرفة والحكمة ) وقال ." هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة " ( التبشير ) وقال " وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا "سبا ، ( الحكمة ) وقال " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن " النحل ( الأخلاق ) وقال " إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق ، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ لَيْسَا مِنَ الإسْلامِ وَإِنَّ أَحْسَنَ النَّاسِ إِسْلامًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا ( التواضع ) ، وقال" إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ، ولا يفخر أحد على أحد " رواه مسلم ( العدل والاحسان ) وقال تعالى " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ " النحل.
فاللهم الطف بالبشرية كافة وجنبهم التطرف والعدمية والظلامية و الظلم والقهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي وكل أنواع التحكم باسم الدين أو المذهب أو الطائفة أو الجنس أو العرق ..ويسر لشعوبنا انتصار النخب الواعية والرصينة الحاملة لمبادئ العدالة والكرامة والعزة والمساواة على كل أنواع الجور والتضليل ، ونسألك اللهم أن تولي أمورنا لخيارنا، وأن تبعدها عن شرارنا ، وتجعلنا جميعا حكاما ومحكومين كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مَثَلُ الُمؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إذِا اشْتَكَى مِنهْ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائرِ الْجَسَدِ باِلسَّهَرِ وَالْحُمَّى" و قال الله سبحانه:
" وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" سورة الروم.
والصلاة والسلام على رسول السلام والخير والعدل الرحمة المهداة.
كتاب الرأي