احتج عدد من المغاربة داخل أحد مساجد مدينة فاس الجمعة الماضية على الخطيب الجديد الذي عينته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، بعدما تم توقيف الخطيب السابق الأستاذ محمد أبياط، وتعطلت خطبة الجمعة في هذا اليوم المبارك العظيم، وهذا حدث غريب وعجيب في تاريخ أعراف وعادات الشعب المغربي الأصيل وثقافته المنفتحة على شعوب العالم، وخطير في نفس الوقت؛ لما يمكن أن يترتب عليه من مفاسد وفتن نحن في غنا عنها، ومن قام بهذه الإحتجاجات والتظاهرات والفوضى وسط بيت من بيوت الله تعالى وإنزال الشيخ من منبره بالقوة ومنعه من إلقاء خطبته، يعني بالنسبة لي الخروج على طاعة ولي الأمر في البلاد، وعدم احترام وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المعنية والمختصة في تسيير قطاع المساجد، بالإضافة إلى عدم احترام بيوت الله تعالى، التي أمرنا الله بتقديرها وتبجيلها، والنظر إليها بعين التكريم والتعظيم والتقديس والاحترام، لأنها بيوت الله تعالى التي بنيت لذكره وعبادته، وتلاوة كتابه وأداء رسالته، ونشر تعاليمه، وتعارف أتباعه ولقائهم على مائدة العلم والحكمة ومكارم الأخلاق..قال تعالى: "ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ.." وقال سبحانه: "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ". وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسجد بيت كل تقيّ وتكفل الله لمن كان المسجد بيته بالروح والرحمة والجواز على الصراط الى رضوان الله الى الجنة " لهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم أمرننا ووجهنا إلى العمل
على إشادتها، والقيام بما يستطيع من جهد مادي أو جسدي لبنائها، وتشجيع الناس على التبرع لاستكمالها وتجهيزها بما يليق ومكانتها، وابتغاء وجه الله تعالى في كل ذلك.
أين المحتجون والمتظاهرون في مسجد فاس من هذه التعاليم النبوية الشريفة؟ والتي ستقودنا -لا محالة- إلى الفتنة، كما سيصبح هذا الفعل الشنيع والخطير الذي ارتكبه هؤلاء في حق بيت الله المكرم سنة سيئة في مساجدنا بالمغرب ! وفي هذا السياق يقول النبي الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ . وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ". مع العلم أن أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله كان قد أصدر مرسوما يمنع بموجبه الأئمة والخطباء طيلة مدة أدائهم لوظائفهم من ممارسة أيّ نشاط سياسي أو نقابي، أو القيام بأيّ عمل من شأنه وقف أو عرقلة أداء الشعائر الدينية، والوزارة المعنية تحاول ما استطاعت تطبيق توجيهات هذا المرسوم، حتى لا تتحول بيوت الله إلى حلبة للصراع والتطاحن السياسي والأيديولوجي والمذهبي، ونحن نعلم أن المساجد تدخل ضمن حقل عمل مؤسسة إمارة المؤمنين التي يترأسها الملك محمد السادس، وهو اﻹمام اﻷكبر في السياسة الشرعية، فيما يسمى أئمة المساجد باﻷئمة الصغار، والإمامة الصغرى يمثلها إمام المسجد وهو النائب عن اﻹمام اﻷكبر في الشؤون الدينية ومبلغ عنه، وبالتالي فمن احتج عن اﻹمام اﻷصغر الذي تم تعيينه من الوزارة المعنية المكلفة بهذا الأمر فهو ضمنيا يكون قد احتج على اﻹمام اﻷكبر ونازعه في اختصاصاته التي أوكلت إليه دينيا ودستوريا، ولا يمكن أبدا لأي مسلم في العالم أن يستسيغ ما قام به هؤلاء من احتجاجات داخل المسجد بمدينة فاس، والتي ستكون عواقبها وخيمة وآثارها سلبية على تسيير وتنظيم الحقل الديني في المغرب الذي يشهد العالمان الإسلامي والغربي بتميزه وضبطه بقواعد الشرع والعقل والدين؛ حتى أصبح المغرب وخاصة حقله الديني، مدرسة تربوية دينية وسطية تمزج في هندسة برامجها بين اﻷصالة والمعاصرة، كما تراعي مستحدثات اﻷمور ومستجدات العصر، وتغير الحال والأحوال؛ مما يعطيها قوة ومتانة وصمودا أمام صواعق البرق التكفيري والإرهاب الدولي العابر للقارات، فالدين ليس لعبة سياسية أو نقابية أو فيلم كارتوني، أو جمعية ثقافية، أو قبيلة أو عشيرة أو طائفة أو حزب..الدين أكبر بهذا بكثير، وأكبر مما يتصوره أهل الدجل والشعوثة وتجارهموم الناس، وآلامهم وفقرهم وجهلهم بشؤون دينهم..الدين يضبط بقواعد الدين نفسه، وﻻ يمكننا أن نخلط المسؤوليات واﻷدوار بين السياسي والديني، فالوزارة المعنية بتسيير قطاع المساجد بالمغرب لم تترك اﻷمر فوضى هكذا لمن هب ودب ان يعتلي منابر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويترك العنان للحناجر تصرخ كيفما تريد، وتقول ما تريد بدون مراعاة الطوابط المتفق عليها والمعمول بها في هذا الميدان؛ لهذا للوزارة المعنية الحق الكامل والصلاحية المطلقة توقيف أي خطيب تراه قد اخترق هذه الطوابط وميثاق الخطباء والمراسيم التي صدرت في هذا الشأن، وهذا أمر ضروري جدا؛ ﻷن هناك أسباب وجيهة لذلك.. تصوروا معي لوفتحنا حرية الخطابة في صلاة الجمعة، فنجد أن هناك خطباء يتحينون الفرص لخدمة أجندات مشبوهة خارجية، فهذا الخطيب يريد أن يخدم مثلا أجندة حركة اسلامية ما، والآخر يريد أن يقنعهم بتوجهات حركته أو الحزب الذي ينتمي إليه، وذاك يريد اقناع الناس بالفكر التكفيري الداعشي الذي يجري في دمه، وآخر يريد أن يخطب في الناس بالفكر السلفي الجهادي المتشدد الذي يحرم كل شيء، ولم يترك شيئا مباحا في الكرة الأرضية إلا وحرمه !وهذا مثالي خرافي، وذاك تحريضي عقيم سليط اللسان يزكي التفرقة الطائفية والمذهبية، ومنهم من هو عدمي مريض يرفض الوجود وقيم الجمال والإبداع والفن والتعايش مع الآخرين..وكل واحد منهم يرى أن آراءه وأفكاره ومنهجه على الصراط المستقيم، والباقي من التيارات والفقهاء والمشايخ والعلماء والخطباء في ضلال مبين، وكل هؤﻻء لهم أتباع، ولهم مريدون أوفياء يترددون على مساجدهم ويستمتعون بخطبهم حسب القرب والبعد من مذاهم وأحزابهم، ما إن تقدم الوزارة على إيقاف أحدهم حتى يواجهونها بالمقاطعة والإحتجاج والخروج للشارع، ومنع الخطيب الجديد من الخطابة وهكذا؛ هنا يأتي احترام تعاليم اﻹمام اﻷكبر، ومن ينوب عنه في الحقل الديني، واﻹمام "جنة" كما جاء في الحديث الشريف، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما الإمام جُنَّةٌ، يُقَاتَلُ مِنْ ورائه وَيُتَّقَى به، فإن أمر بتقوى الله وعَدَلَ كان له بذلك أجرٌ، وإن يأمر بغيره كان عليه منه". قال النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "الإمام جُنَّة" أي كالستر لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين، ويمنع الناس بعضهم من بعض، ويحمي بيضة الإسلام.." فالإمام الأكبر صمام أمان المجتمع، فإن لم يطاع وتحترم تعليماته وتوجيهاته ومراسيمه تكن فتنة في اﻷرض وفساد كبير، ولهذا قلت سابقا بأن هذا اﻹحتجاج الذي حصل داخل المسجد هو ضمنيا خروج عن اﻹمام، ينبغي الضرب من حديد على كل من يحاول العبث بأمننا الروحي، أويحاول القيام مرة ثانية بمثل هذه التصرفات الصبيانية الطائشة، التي لا تعبر عن شيء، بقدر ما تعبر عن ضعف الإيمان وسوء أدب أصحابها مع بيوت الله تعالى .
وختاما أقول: لوزارة الأوقاف الصلاحية في توقيف أيّ خطيب تراه قد اخترق الضوابط والمراسيم المنظمة لشؤون الأئمة وخطباء المساجد؛ لغاية قطع الطريق على كل جهة يمكنها أن تأخذ المنبر مطية لتمرير الخطابات التحريضية والمذهبية والسياسوية والتكفيرية..وفي اعتقادي الشخصي أن الهجوم الذي تعرض له السيد الوزير أحمد التوفيق ووزارة على الخصوص ليس بريئا أبدا، وإنما لحاجة في نفس يعقوب كما يقال، ستعرف في القريب العاجل .